لم نعرف بعد ما هي مسوغات ظهور كاتبنا الكبير الفرانكوفوني أمين معلوف في مقابلة مع إحدى القنوات الإسرائيلية. ولم تكن خطوته هذه الخطوة التمهيدية في مسار التطبيع العربي – الإسرائيلي المتعرّج. ولن يشكل الموقف السلبي منه رادعاً للعرب الآخرين عن سلوك هذا الطريق؛ فالمسألة شائكة. وقضية مثل قضية التطبيع ليست بهذه البساطة، لأنها جزءٌ من صراع متعدّد الوجوه والأسماء والأزمنة.
من المؤسف أن التطبيع الثقافي الإسرائيلي سابق على الاتفاقات السياسية المبرمة وغير المبرمة، المعلنة والسرية. وليس هو ثمرة من ثمارها المرّة. الثقافة الإسرائيلية متغلغلة قبلاً في حياتنا وثقافتنا، تنتحل مسمّيات مختلفة وأقنعة متعدّدة. جمعيات ومقولات وايديولوجيات.
احمد زين الدين/جريدة السفير
الفضاء الثقافي العربي مشوب بأطياف هذه الثقافة وأشكالها ومظاهرها. والذهن العربي المتغرّب والمتأورب خصوصاً لم يقاوم، ولم يتصدّ، ولم ينتبه إلى ما يحصل على صعيد الثقافة المعولمة التي يتمثلها ويحتذيها، فيردّد بوعي او دون وعي مقولات إسرائيلية الجذور والهوى. لم يقاوم، إن قاوم، إلا الوجه السياسي البارز من هذه الثقافة، والمواقف الآنية العابرة.
في حين أن العقل الديني التقليدي كان قانعاً وفرحاً بما لديه، ولم يلتفت إلى معالجة السموم اليهودية المبثوثة في شرايين ثقافته. واقتصرت مقاومته على الدعوة إلى أصالة شكلية فارغة ومجردة من كل أدوات القوة لجبه تحديات العولمة التي تلوّن بعضها الذهنية الإسرائيلية بألوانها ومقاصدها ومنافعها.
ولا ضير من التذكير بالبعد التاريخي العميق لهذا التطبيع بالإشارة إلى الموروث الإسرائيلي المسمّى إسرائيليات القرآن الذي غزا تراثنا العربي الإسلامي، ودخل في صلب الموروث الديني الإسلامي بعد تأثيره الهائل على اللاهوت المسيحي وعقائده، فاحتلّ العقل قبل الأرض.
كانت الأفعى الإسرائيلية تفحّ سمومها في عبّنا ولا ندري أو نحس. وأقول في عبّ العالم ورأسه، حتى غدا الفكر الإسرائيلي أمتن الخيوط وأصلبها في نسيج الفكر الكوني المعاصر. كانت الثقافة الإسرائيلية وما برحت تتسلل من ثقوب تخلفنا وجهلنا وحماقتنا، لاننا لم نرَ من صراعنا مع إسرائيل إلا فوهة المدفع المصوّب إلى صدورنا، وغاب عن أنظارنا مدفع آخر أبعد مدى وتأثيراً موجه إلى عقولنا.
التحدي الحضاري تخلّف عن الركب، وكان عليه ان يتقدم او يتزامن مع التحدي العسكري والسياسي. ان يدفع عنا غائلة الاختناق الثقافي وانسداد أفق المشروع القومي المحاصَر قديماً وحديثاً الذي ازدادت سماكة جدرانه، مع انفلاش المد الأصولي الديني.
فلنعد النظر قبل فوات الأوان في العديد من بديهياتنا الثقافية والعقلية المفخخة بالألغام الإسرائيلية. ولنقاوم الإغراء والاستسهال والاستخفاف في عملية عسيرة ومعقدة، وأمام عدو صعب المراس، عريق الخبرة.
إذا كان من الخطورة الظهور في قناة تلفزيونية أو حتى الكتابة في صحيفة إسرائيلية، مهما بلغت حدود المغريات المادية والمعنوية. فإن الأخطر أن يكون الأدباء والمثقفون العرب مطايا الصهيونية وجسورها الى العقل العربي، حينما نكتب في صحفنا ودورياتنا العربية بعقل الثقافة الإسرائيلية وحبرها، فنروّج لأفكارها، ونوطّد حضورها الثقافي في أوساطنا.
وإن كنّا من محبذي شعار إعرف عدوك لتعرف نفسك الذي بات بديهياً، وأحد مبادئ العلاقات السياسية بين الدول المتصارعة. فإن المسألة هي في الاعتراف بالعدو بدلاً من معرفته، والاقتراب منه بدلاً من مقاربته.
وبصراحة، ستزداد مع وتيرة الزمن، وتفشي الأصوليات الدينية والمذهبية معاناة المثقف العربي داخل بلده وخارجه، ومع نفسه وعدوّه. وسُيبتلى بكثير من التجارب والخيارات القاسية، ليس هذا الخيار، ولا أقول الإغراء الإسرائيلي المطروح علينا أصعبها وأضناها. فالأفق يضيق والبحث عن المخارج أصبح ملحاً.
المصدر: جريدة السفير