أمين أبوراشد
آن الأوان للأكراد التوقُّف عن الرهان على أميركا، بعد تجربتهم معها خلال إستفتاء نشوء “دولة إقليم كردستان”، هي التي أرادتهم خنجراً في الخاصرة الإقليمية وبداية لمشاريع إقامة “الإسرائيليات”، سيما وأن الجوار الإقليمي الحاضن لهم من سوريا الى العراق الى إيران، أعطاهم “ذاتية الخصوصية العرقية” وعاملهم كمواطنين لا يختلفون عن سواهم في الحقوق والواجبات عن سائر الشرائح الأخرى.
في كتابها “مغامرة حب في بلادٍ ممزَّقة”، تسرُد الروائية الأميركية جين ساسون، مُعاناة الأكراد في جبال كردستان زمن صدام حسين، تلك الجبال التي يستخدم الأكراد فيها المغاور والكهوف مساكناً لهم، حيث لا مقومات عيش ولا نواة دولة مستقلة متوفِّرة، لا في هذه الجبال ولا حتى في مدن إقليم كردستان العراق أو الشمال السوري، ولا دول المحيط الإقليمي التي أفرزتها “سايكس – بيكو” كيانات سياسية مستقلة، تسمح بتمزيق نفسها لإقتطاع جزء من جغرافيتها والسماح بقيام كانتونات عرقية أو طائفية إرضاءً لإسرائيل وحماية لكيانها.
وإذا كانت تلك القومية الثائرة، تبحث عن وطنٍ في “كوردستان الصغرى” على مُربَّع الحدود العراقية السورية التركية الإيرانية، فإن هذا الوطن الإفتراضي لو تحقق يوماً، فهو لن يكون جاذباً لأبناء القومية الكردية المنتشرين على جغرافية 400 ألف كيلومتر مربع والتي يحلو لهم تسميتها “كوردستان الكبرى”، خاصة أن تاريخ الأكراد كما أورد المؤرخ الكردي محمد أمين زكي (1880 – 1948) في كتابه “خلاصة تاريخ الكورد وكوردستان”، أنهم “يتألفون من طبقتين من الشعوب، الطبقة الأولى التي كانت تقطن كوردستان منذ فجر التاريخ ويسميها المؤرخ زكي بـ ” شعوب جبال زاكروس”، والطبقة الثانية، هي طبقة الشعوب الهندو- أوروبية التي هاجرت إلى كوردستان في القرن العاشر قبل الميلاد، واستوطنت كوردستان وامتزجت مع شعوبها الأصلية ليشكلا معا الأمة الكوردية، وهذه الطبقة الثانية يعتبرها المُستشرقون والقوميون العرب أنها “كوردية غير أصيلة” أنتجها مهاجرون ليس من حقِّهم المُطالبة بوطن، رغم مرور آلاف السنوات على هجرتهم”.
وأمام واقع هذه القومية التي تبحث عبر تاريخها عن وطن، وتتوارث البندقية من جيلٍ الى جيل، وتتوارث معها حياة الجبال، نأخذ عن الأرمن كقومية تجمعها بالأكراد المعاناة مع العثمانيين/ الأتراك والعيش في الشتات ونقول: لدى الأرمن وطنهم القومي في أرمينيا، وهي الوطن الأم لِسُكانها الحاليين ولأرمن الشتات أيضاً، لكن عندما سيطرت الجماعات الإرهابية على مدينة حلب السورية، لجأ الكثيرون من أرمن حلب الى أرمينيا، ورغم رساميلهم كتجار مُقتدرين، خاصة صاغة المجوهرات منهم، لكنهم في كثيرٍ من المقابلات التلفزيونية واللقاءات على الفضائيات، أعلنوا بصراحة ما يلي: صحيح نحن أرمن، وأرمينيا هي وطننا الأول، لكننا أرمن من الشرق، ولا ننسجم مع عادات وتقاليد أرمن الغرب، وننتظر بفارغ الصبر تحرير حلب للعودة الى البيئة السورية الشرقية التي نشأنا فيها!
وبما أن مشاعر الإنتماء والإرتباط الإجتماعي والوطني والإقتصادي لأرمن حلب وسوريا عامة، هي نفسها لدى الشرائح الأرمنية التي تعيش في لبنان والعراق وإيران وصولاً الى جورجيا الروسية ومنها الى الغرب في أوروبا وأميركا وكندا وسائر المهاجر التي يعيش فيها الأرمن، فإن كل جالية استوطنت حيث هي، والإنتماء الوطني لديها يتقدَّم على عالم الإنتماء لقومية في وطنٍ بعيدٍ عن نشأتها، ولا تطمح بأن يكون لديها يوماً أي كيان سياسي تحت مُسمَّى وطن إذا كان تحقيقه على بساطٍ من دماء كان يهدرها أقرانهم الأكراد عبثياً.
بقيت الجزئية الأهمّ من تاريخ الأكراد المعاصر، هي في أن زعيمهم التاريخي عبدالله أوجلان قد اعترف ولو من داخل سجنه التركي، بوجوب إندماج الأكراد في مجتمعاتهم الحالية، وإذا كان البعض لديه وجهة نظر، أن أوجلان استسلم لواقع القُضبان وأعلن منذ سنوات نهاية الثورة الكردية تحت وطأة الضغط، فإن مسعود البرزاني كان حراً طليقاً وزعيماً لإقليم كردستان وأجرى استفتاء شعبياً ناجحاً ضمن الجزء الذي كان يسيطر عليه بالإستقلال وإعلان الدولة الكردية، ورغم ذلك فشِل وارتحل، ليس فقط نتيجة رفض الدول المجاورة تمزيق نفسها من أجل استحداث دولة كردية على حساب سيادتها على أوطانها، بل لأن الأكراد من مواطنيها قد اختاروا طوعاً أوطانهم، ولن يهجروها ليسكنوا جبال كردستان وإقامة دولة لا يُمكن أن تتمتَّع بمقومات قيام الدول، سوى أنها تمتلك مغاوراً وكهوفاً وصداقة الجبال.
يبقى على الأكراد مُقاربة واقعهم، خاصة في العراق وسوريا، لأن حاضنتهم هي محيطهم الإقليمي وليست أميركا التي حاولت استخدام قضيتهم خنجراً إسرائيلية لتمزيق الكيانات، وضمانتهم الأمنية والوجودية اليوم، هي بين مواطنيهم العرب في سوريا والعراق، وحسن العلاقة مع الجارة إيران التي استقبلت رئيس حكومة الإقليم بحفاوة، وتبذل مساعياً جدية لتفعيل الحوار بين حكومة الإقليم والحكومة المركزية في العراق، وتبقى الهوية الوطنية سواء كانت سورية أو عراقية هي ضمانة الوجود الكريم للأكراد بمواجهة أعداء مشتركين لسائر مكونات الشعبين السوري والعراقي، بعيداً عن مسلسل مغامرات سابقة قضت على أجيال من المواطنين الأكراد ولم تنبنِ وطناً، سوى في أحلامٍ إنفصالية تُصادق الجبال وتنتحر على الصخور..