كتاب: ها هو اليتيم بيعين الله.. النبي (ص) من الولادة الى البعثة. لـ محمد رضا سرشار
تعريب وتعليق: بتول مشكين فام
تقديم: الدكتور علي مهدي زيتون
لا تحمل كتابة السيرة النبويّة الشريفة الهمّ الرساليّ وحده. يترافق هذا الهمّ مع همّ آخر هو الهمّ الأدبيّ . ذلك أنّ السيرة الشريفة ليست سيرة أيّ إنسان عاديّ، تتطلّب من الأهبة والاستعداد والإمكانات العلميّة والأدبيّة ما لا تتطلّبه سيرة أخرى.
شخصيّة الرسول الأكرم (ص) شخصيّة متفوّقة بلغت حدّ الإعجاز، فلا تماثلها شخصيّة أخرى. وقد استطاعت أن تنهض بأعباء رسالة كانت نهاية الرسالات السماويّة وأكثرها تطلّبًا للجهد، والاستعدادات الشخصيّة النفسيّة، والقدرة على التضحية. والسؤال الذي يُطرح هنا: كيف تُقدّم شخصيّة رسول اختاره الرحمن ليتحمّل عبء آخر ما أراد الله أن يبلّغ البشريّة به على امتداد مستقبلها على الأرض؟
وشخصيّة الرسول الأعظم (ص) شخصيّة مرتبطة بالإسلام غير منفكّة عنه، تمثّله بما يُوحى إليها، وتمثّله ببشريّتها. وهذا ما يثير سؤالًا صعبًا في وجه كاتب السيرة المقدّسة يتعلّق بالمواءمة بين بشريّة محمّد (ص) واتصاله بالوحي؟
وشخصيّة الرسول الحبيب (ص) إلى ذلك شخصيّة تاريخيّة متحيّزة في تاريخ محدّد تفرض على كاتب السيرة أن يتوسّل العلميّة الموضوعيّة، وتطرح عليه سؤالًا ينافس الأسئلة السابقة وقد يقف في مواجهتها عند من لا يعتنقون الإسلام دينًا. أضف إلى ذلك أنّ التاريخ لا يهتمّ بالتفاصيل اليوميّة الخاصّة بحياة الرسول (ص)، فكيف سيحصل على تلك التفاصيل التي لا تقوم سيرة من دونها؟
ويبقى أنّ التعامل مع سيرة شخصيّةٍ كهذه الشخصيّة لا يمكن أن يتمّ على يد كاتب من الصفّ الثاني أو الثالث. فلتكون الكتابة متوائمةً مع هذه الشخصيّة يجب أن يكون الكاتب من الصفّ الأوّل، فتكون الرساليّة عنده عين الأدبيّة، والأدبيّة عين الرساليّة. ويطلّ على هامش هذا الهمّ سؤال مبدئيّ: كيف تتلبّس الكتابةُ الأدبيّة الكتابةَ التاريخيّة؟ وكيف يمكن أن تُزال الحدود ما بين السيرة والرواية؟
القصّة القرآنيّة هي الأنموذج. ذلك أنّك إذا أردت أن تصفها بأنّها تاريخ فهي تاريخ، وما قدّمته هو حقيقة قد وقعت فعلًا. وإذا أردت أن تصفها بأنّها أدب فهي أدب، وهي ليست أدبًا عاديّا، هي أدب معجِز. ولا يعني ذلك أنّ المطلوب من السيرة أن تقف بموازاة القصّة القرآنيّة، المطلوب أن تتخذ منها أنموذجًا يُحتذى.
ورواية “ها هو اليتيم بعين الله” رواية سيريّة تاريخيّة لا تأبه بما حدّدته السرديّة (المنهج السرديّ) من تقنيّات. وهذا جيّد؛ لأنّ تلك التقنيّات، مع أهميّتها، لا تفي الأدبيّة حقّها، تظلّ تقنيّاتٍ يجيدها من يتمرّس بها. الأدبيّة الحقّة هي تلك المسافة اللغويّة التي تتشكّل على هيئة علامات سيمائيّة دالة تربط رؤية الكاتب بالعمق الذي نفذت إليه تلك الرؤية في جانبٍ من جوانب العالم المرجعيّ، موضوع الكتابة. وتكون الكتابة أرقى كلّما كان الأديب مثقّفا أكثر. وبقدر رقيّ الرؤية تكون الخصوصيّة أكثر توافرًا. وهذه الخصوصيّة هي الفرادة، رأسمال الكاتب الذي لا يكون كاتبًا من دونها، وهي الأدبيّة عينها.
وتحويل سيرة الرسول الأعظم (ص) إلى خطاب أدبيّ، إلى رواية، كرواية “ها هو اليتيم بعين الله”، لا بدّ من أن ينطلق ممّا يسّره التاريخ والسّير التي كُتِبت على هامش تلك الحياة المقدّسة. وتأتي سيرة ابن إسحق التي لُخِّصت وهُذّبت من خلال سيرة ابن هشام على رأس المرجعيّة المتعلّقة بالسيرة المقدّسة. ولعلّ أوّل ما يواجه هذه المرجعيّة من نقدٍ، مع أهميّة الجهود المبذولة فيها، هو أنّها مالأت الحاكم الذي كُتِبت في ظلّ دولته. فقد ساقت أمورًا عديدةً تساير ما يشتهيه ذلك الحاكم. ولا تطرح مثل هذه المشكليّة مهمّة إعادة كتابة السيرة الشريفة على أسس علميّة محضة، في ضوء الحقيقة التاريخيّة فحسب، ولكنها تطرح مهمّة الوصول إلى أدبيّة جديدة لتلك السيرة أيضًا. ويقتضي هذا الأمر مرحلتين من العمل. تكون المرحلة الأولى من حيّز مؤرّخ من مؤرّخي الصفّ الأوّل الذي يتوجّب عليه تحقيق السيرة من جديد تحقيقًا علميًّا يضع النقاط على الحروف. وتكون المرحلة الثانية من حيّز أديب من أدباء الصفّ الأوّل يعطي هذه السيرة المباركة حقّها الجمالي فيكون منطلقًا ومثارًا لتجارب متجدّدة في هذا المجال.
وإذا ما وُجدت جهود فرديّة عديدة قد بُذلت من أدباء مرموقين في هذا الخصوص، فإنّ مثل هذه الجهود الفرديّة لا تفي بالغرض المطلوب. لا بدّ من مؤسّسة مختصّة، أو دائرة مختصّة من ضمن مؤسّسة تهتمّ بالقرآن والحديث، تراقب عامًا بعد عام ما وصلت إليه السيرة من حقائق موضوعيّة، وما كُشِف عنه من أبعاد جديدة تتعلّق بالحياة الشريفة للرسول الأكرم (ص)، خصوصًا أن هذه الحياة كانت وما زالت موضع افتئات من بعض من يرفعون شعار الإسلام زمنًا بعد آخر، تُوظّف لغايات مشبوهة. إنّها مسؤوليّة صعبة وخطيرة تمثّل دعوةً مفتوحةً إلى كلّ كبير من أدباء الأمّة أن يعيد كتابة السيرة من جديد. وتعدّد الكتابة لا يعني تكرارًا لما كُتِب. هو، مع كلّ كتابة جديدة بعين جديدة نكون أمام مرحلة جديدة تصل إلى أبعاد جديدة من أعماق تلك السيرة بناءً على نظريّة الكشف الأدبيّة.
ويبقى لنا أن نقول، مع كلّ ذلك: إذا كان المؤرّخ لا ينقل إلينا إلّا العامّ من حياة شخصيّة معيّنة، حتّى لو كانت تلك الشخصيّة شخصيّة النبيّ (ص)، فإنّ السيرة، هي الأخرى، لا تهمل ذلك العامّ، وإن كان دورها المحوريّ هو الاهتمام بالتفاصيل. ويأتي الحديث الشريف ليمثّل مصدرًا أساسيّا من مصادر تلك التفاصيل الخاصّة بسيرة الرسول الأعظم (ص). وهو مع ما ارتبط به من مشكليّات معروفة حاول علم الحديث تخليصنا منها، لا يعني أنّه مرجع شافٍ كافٍ لمعرفة كلّ تفاصيل السيرة. ثمّة تفاصيل عديدة يمكن أن تكون قد أفلتت من الحديث وغابت عنه. وإذا لم يوجد طريق يقينيّ يصل بنا إلى ما غاب عن كتاب التاريخ أو كتاب السيرة، فهل يُسمح لكاتب السيرة الأديب، لا المؤرّخ، أن يلجأ إلى ما لجأت إليه الرواية التاريخيّة الأدبيّة من تقنيّاتٍ يأتي على رأسها ملء الفجوات التي أهملها التاريخ، ولم يصدف أن واجهها ما وصل إلينا من حديث شريف، بتفاصيلَ من صنع الأديب، تفاصيلَ منسجمةٍ مع ما حقّقه التاريخ، وغير متنافرة معه؟
إنّ الرواية السيريّة الموسومة بعنوان “ها هو اليتيم بعين الله” والتي كتبها، بالفارسيّة، محمّد رضا سرشار، وقامت بترجمتها إلى العربيّة بتول مشكين فام أستاذة الأدب العربيّ في جامعة الزهراء (ع) الزاهرة، تحمل الكثير من الإجابات عن الأسئلة التي سبق أن طُرِحت، وإن أضافت إليها سؤالًا جديدًا مرتبطًا بالترجمة. ولئن حلا لبعضهم وصف الترجمة بأنّها «خيانة» للنصّ، فإنّ لفظة «خيانة» المرتكزة إلى بعد أخلاقيّ لا توائم الترجمة. وإذا كان النصّ الأصليّ في رواية “ها هو اليتيم بعين الله” قد كُتِب بالفارسيّة، يعني أنّه قراءة محمّد رضا سرشار، بالفارسيّة، ومن خلال رؤيته الثقافيّة إلى جانب من جوانب العالم المرجعيّ، مرحلة من حياةِ الرسول المصطفى (ص)، فإنّ ترجمة هذا النصّ إلى العربيّة هو قراءة المترجِمة بتول مشكين فام بالعربيّة، ومن خلال رؤيتها الثقافيّة إلى النصّ الأصلي. وأن يأتي قارئ «متلقّ» لا يعرف الفارسيّة، فإنّ قراءته الترجمة العربيّة لذلك النصّ هي قراءة ثالثة لحياة الرسول بوساطة قراءتين سبقتاها. وإذا نحن أمام نشاط نقديّ مضمر متعدّد الطبقات. وهذا التعدّد عامل غنًى لا يمكن وصمه بالخيانة مطلقًا.
وإذا أردنا قراءة هذه الرواية السيريّة من خلال النصّ المترجم قراءةً نقديّةً، فإنّنا سنجد أنفسنا ندخل بحرًا يحتاج إلى جهود لا يتّسع لها مثل هذا التقديم. فالعنوان وحده “ها هو اليتيم بعين الله” مترع بالدلالات، محمّل بالأبعاد التي تقيمها كلّ من الباء من ناحية، وهاء التنبيه من ناحية أخرى، بين ذلك اليتيم، محمّد (ص)، وعين الله.
ومهما يكن من أمر، فإنّ أهميّة هذه الرواية تكمن في ما قدّمته من تفاصيل كانت هي الأدبيّة عينها، إذ لا يفاجأ القارئ بمعلومات أساسيّة جديدة تختصّ بسيرة المصطفى (ص) يقدّمها له هذا الكتاب. ولعلّ اقتصار هذه الرواية على المرحلة المتحيّزة بين الولادة والبعثة من السيرة الشريفة فقط هو العلامة على أنّ الهمّ الأساسي الذي حدا الكاتب إلى الكتابة هو تلك التفاصيل بشكل أساسيّ. وبالفعل فإنّ من يقرأ هذا الكتاب يجد نفسه مشدودًا إلى تفاصيل تنتزعه من عالمه السببي المنطقي لتتبعه بعالمها. يلقى ذلك في مشهد تيه الجماعة القرشيّة المنتدبة للاحتكام إلى كاهنة سعد بن هذيم في الصحراء ومن ثمّ نجاتها. كما يلقاها من خلال تلك الإشارات المتكرّرة إلى أنّ عبد المطّلب هو أبو الواحد، ومع كلّ تجربة تتطلّب السند والنفير، والتي أدّت دورًا بنائيًّا أوصلنا إلى نذْر عبد المطّلب الذي صوّب التضحية نحو عبد الله. إنّ مشهد الأمّهات والأخوات وأمارات الضعف التي عصفت بهنّ لحظة اتجاه عبد المطلب إلى الأزلام يحتكم إليها لتحديد أيّ الأبناء العشرة الذي سيكون الضحيّة، مشهد آسر: “أغلبهنّ حافيات… ثائرات… الأمّهات حُدُب الظهر ضارعات منبهتات، والأخوات يضطربن كالحميص، لا يقرّ لهنّ قرار، يتراكضن يسرةً ويمنة… يتمسّكن بأحضان عبد المطّلب متوسّلات إليه أو يتعلّقن بأعناق الأخوة الشباب”. كأنّنا أمام مشهد سينمائيّ حيّ يسافر بنا في مناخات المشاعر المستعرة أسًى وحزنًا وخوفًا منقطع النظير. ولا يقلّ السكون الذي سبق لحظة بدء الوحي إيحائيّةً عن مشهد تلك النسوة. “كأنّ الأرض آنذاك، والأحياء، والزمان، كلّ في غفوة، بل رقدة. تنكّب النسيم عن الهبوب… لم يكن محمّد قد لامس هذا الصمت… كانت الآذان تلتقط – بوضوح – حتّى صوت الزرع إذا نبت، والبرعم إذا تفتّح”. لا يقدّم لنا هذا الكلام تفاصيل بلغت من الدقة أقصاها فقط، ولكنّه يقدّم لنا من الأدبيّة أرقاها. هل يوجد وراء هذا السكون سكون يمكّن الآذان من أن تلتقط بوضوح “صوت الزرع إذا نبت والبرعم إذا تفتّح”؟ إنّها الإيحائيّة الأدبيّة بأبهى تجلّياتها، وما كان لهذا السكون أن يكون كما كان لو لم يكن فاتحة منعطف استراتيجيّ في تاريخ البشريّة. نعني به انطلاقة الوحي الإلهيّ. وتتعدّى الأدبيّة المشهد والتركيب إلى المعجم الذي قدّم لنا بمفرداته المناخ الحقيقيّ الذي رافق حياة الرسول (ص) منذ الولادة إلى البعثة. تابع قوله: “فصلت العير عن مكّة قبل خمسة عشر يومًا”، وراقب كلامه هذا أيضًا: “في صبيحة اليوم الخامس من الحيرة، حرنت أكبر الإبل سنًّا، وجنّت الأُخر جنونها من شدّة الظمأ والسغب، فجمحت نافرة”، تجد كلمات لم تعد مستعملةً أيّامنا هذه: “فصلت”، “العير”، “السغب”، “نافرة”، ولكن من منّا لا يعرف دلالات هذه الكلمات؟ إنّه معجم مرحلة البدايات استطاع أن يستحضر إلينا مناخاتها، وجعلنا نعيش أبعادها. وهذا منتهى أدبيّة أيّ معجم من معاجم النصوص.
ويبقى أنّ رواية “ها هو اليتيم بعين الله” هي تجربة حديثة في كتابة السيرة المحمّديّة تؤشّر إلى الأدبيّة الروائيّة التي يجب أن ينتهجها الروائيّ العربيّ؛ لأنّها متصلة بتاريخنا الأدبي، وبإمكاناته، وبمعالم الخصوبة التي يبطنها. وهذا ما يمكّنه من أن يقف أمام مشهد التاريخ الأدبي الغربي، والروائيّ منه على وجه الخصوص، متحرّرًا من كلّ مركّبات النقص التي يعيشها أديبنا وأدبنا في هذه المرحلة.
المصدر: معهد المعارف الحكمية