كل خلية من خلايا الجسم هي عبارة عن ورشة مليئة بالآلات، المركبة في أغشية الميتوكوندريا، المعروفة بمراكز الطاقة المجهرية. هذه الآلات مهمتها إنتاج ما يسمى بالأدينوسين ثلاثي الفوسفات، الذي يعتبر بمثابة “الوقود البشري” الذي يعمل الجسم كله بواسطته.
مئات التريليونات من الميتوكوندريا تصدر أصواتاً كل ثانية بسبب “هدير” سواعد الأجهزة الروبوتية التي تعمل على طاقة البروتون. يسقط عنصر الفوسفات من خلال ثقب صغير على وعاء، وتكتسب البروتونات على خصائص كيميائية جديدة بفضل التيار الكهربائي الناتج، وبعد ذلك يصل عنصر الفوسفات إلى خرطوم، ويدخل من خلاله الميتوكوندريا للانضمام إلى مواد فوسفات أخرى لكي تتكون جزئيات أدينوسين الثلاثي الفوسفات.
الأسئلة التي تطرح نفسها هي: هل يمكن أن تكون هذه العملية الصناعية جزءاً من جسمنا؟ ومن أين آتت هذه الآلات إلى خلايانا؟ وكيف تصل البروتونات إلى هناك؟ وهل الأجهزة التي تذكرنا بالأبواب الدوارة في محلات السوبر ماركت يمكن أن تكون بأعداد هائلة داخل جسمنا؟
كل هذه الأسئلة وكذلك الأجوبة عليها أصبحت محط اهتمام علماء الأحياء المجهرية والأحياء الفيزيائية الذين أرادوا معرفة كيف أن الأغذية المتنوعة التي يتناولها الإنسان، تتحول إلى مادة تزود كل عضلة من عضلات جسمنا بالطاقة. اتضح أن دورة التحولات معقدة للغاية بحيث يشكل الحديث عنها بالتفصيل نص كتاب ضخم. لكن باختصار يمكن شرح العملية على النحو التالي:
بعد أن يتم مضغ الطعام وابتلاعه يدخل المعدة حيث يخضع لتغيرات متنوعة تسمح بامتصاصه بشكل أفضل. تستمر عملية الهضم في الأمعاء الدقيقة تحت تأثير الأنزيمات الغذائية المختلفة، وهناك تتحول الكربوهيدرات إلى الغلوكوز وتفكك الدهون والبروتينات.
بعد ذلك تدخل مادة الغلوكوز إلى الخلية، وهناك تتحلل إلى عنصرين مناصفة- وبهذا الشكل (وهذا ما يسمى بالبيروفات) تصل الغلوكوز إلى الميتوكوندريا.
الميتوكوندريا هو الجزء الضروري من خلايا معظم الكائنات الحية، من الحيوانات والنباتات والفطريات. ووفق إحدى الفرضيات فقد كانت الميتوكوندريا ذات مرة كائنات مستقلة تعيش بشكل منفصل عن أجسامنا، ولهذا ماتزال تحتفظ بالجينوم الخاص بها (الميتوكوندريا). أي أن كل خلية في أي شخص مخلوق هناك كائن مع جينوم خاص به! لكن في مرحلة ما، وهذا يعود إلى العصور القديمة، اندمجت مع خلايانا من خلال توفير الطاقة لها من أجل هضم الطعام. هذا التعاون المثمر والمفيد لكلا كائنات الجسمين يطلق عليه التكافل ويستمر حتى يومنا هذا.
وهكذا عندما تصل البيروفات إلى داخل الميتوكوندريا، تبدأ أجزاء الغلوكوز بالتأكسد على التوالي.
في محيط الميتوكوندريا يطفو على السطح ثنائي النوكليوتيد نيكوتينامد الأدينين “NAD”، حيث تثير طاقة الأكسدة هذه عند الانتقال إلى هذا الجزيء انقسام البروتون.
وأخيراً نشأ هذا البروتون من خلال مخطط التحول المعقد هذا، الذي يعتبر ضرورياً لدمج جزيئات الأدينوسين ثلاثي الفوسفات. من خلال المخطط التوضيحي يتبين أن هذه البروتونات تتحرك بوتيرة سريعة فوق غشاء الميتوكوندريا قبل الدخول في “الآلة”. في واقع الأمر لم يكن واضحاً حتى الآونة الأخيرة كيف تصل هذه البروتونات إلى هناك، إذ أنها يمكن أن تسبح أينما تشاء! ولكن ما يثير التساؤل هو لماذا تكون قريبة من الغشاء، وتتجمع مباشرة أمام مدخل بوابة “الآلة” الدوارة. حالياً بات الباحثون الروس من الجامعة الوطنية للبحوث التكنولوجية “ميسيس” جنباً إلى جنب بالتعاون مع زملائهم النمساويين من معهد الفيزياء الحيوية التابع لجامعة يوهانس كيبلر يعرفون من خلال إجراء التجارب لماذا تحصل مثل هذه العمليات.
يقول سيرغي أكيموف الباحث في قسم الفيزياء النظرية والتقنيات الكمية في الجامعة الوطنية للبحوث التكنولوجية “ميسيس” موضحاً: إن البروتونات عند حركتها داخل الميتوكوندريا تقع في وسط مائي. ومن المعروف أن جزيء الماء H2O يتألف من ذرتي هيدروجين وذرة واحدة من الأوكسجين. وبالإضافة إلى الروابط الكيميائية داخل جزيء الماء الواحد، فإن هذه الذرات يمكن أن تشكل روابط ضعيفة مع جزيئات الماء المجاورة وتسمى هذه الروابط بالروابط الهيدروجينية. وبالقرب من سطح الأغشية فإن هذه الروابط في جزيئات الماء تتشكل بطريقة خاصة، وذلك لأنه من ناحية هناك ماء ومن ناحية أخرى هناك “الآلة”. الروابط الهيدروجينية القريبة من الأغشية مختلفة لأنه لديها عدد مختلف وبنية مختلفة. والبروتون الخاص لهذه الروابط الهيدروجينية يستخدمها كسكة للتحرك إلى الأمام على طول الغشاء. وقد أظهرت أبحاثنا بأن البروتون “معجب” بهذه البنية، وهو لا يغوص داخل الميتوكوندريا وإنما يتحرك بسرعة وبشكل غير طبيعي على طول الغشاء.
هكذا تحدث عملية “الاستيلاء” على البروتونات من أجل تشكيل أهم جزيئات الطاقة في أجسامنا الأدينوسين ثلاثي الفوسفات. وهذه تستخدم لأي تحرك من تحركاتنا وتحافظ على حرارة الجسم…إلخ.
الأدينوسين ثلاثي الفوسفات- هي عبارة عن بطارية شاملة تمد معظم التفاعلات التي تحدث في الخلية بالطاقة. وبهذه الطريقة يتم دمج البروتينات والكربوهيدرات والدهون ويتم توفير حركة السياط والأهداب ونقل المواد وتخلص الخلايا من النفايات وعند تفكك الأدينوسين ثلاثي الفوسفات، أي تفريغ “البطارية”، يتم فرز الطاقة التي نحتاجها.
إن نتائج البحوث العلمية الأساسية التي تم الحصول عليها تقرب الباحثين من مسألة فهم الآليات العميقة لتوليد الطاقة في الخلايا، وكذلك تفتح الآفاق أمام علم العقاقير. إن نتائج هذه الأبحاث يمكن أن تستخدم لإنتاج الأدوية التي تعمل على القضاء على السموم والوقاية من الأمراض المرتبطة بفرط نشاط الغدة الدرقية. في هذه الأعراض المرضية تتراكم ما يسمى بالمواد الانفصامية في الميتوكوندريا. وهذه المواد عبارة عن أحماض ضعيفة لتذويب الدهون، التي تربط البروتونات بشكل فعال، مما يؤدي إلى انخفاض عام في تركيبة الأدينوسين ثلاثي الفوسفات. إن المعارف الجديدة التي تم الحصول عليها من الباحثين الروس تسمح بفهم ما يجب القيام به من أجل استعادة طاقة الإنسان على مستوى كل خلية.
المصدر: سبوتنيك