العام الماضي، كانت الذكرى المئوية لإتفاقية سايكس- بيكو (1916)، التي رسَّمت حدود الكيانات الحالية على أنقاض السلطنة العثمانية، وازدحمت أروقة صنع القرار الدولية والإقليمية في العمل على تمزيق خرائط واستحداث خرائط جديدة وخاصة لسوريا والعراق، وكان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من أوائل المتحمِّسين لإعادة النظر بهذه الإتفاقية، وترسيم بعض الدول العربية الى دويلات مذهبية، ووعد نفسه بالصلاة في الجامع الأموي بدمشق بعد سقوط النظام السوري، لكنه صُدِم بنكستين، صمود النظام وقدرته على صون وحدة الأرض السورية من جهة، وانتفاض الأكراد ألدّ أعداء تركيا لإقامة أول دولةِ على حدودها من جهة أخرى: “دولة كردستان العراق” التي هي حُلم القومية الكردية كنواة لـ “كردستان الكبرى”، والتي رسَّمت أميركا خرائطها منذ أكثر من نصف قرن.
فَرمَلَ الرئيس التركي إندفاعته في تمزيق دول الجوار، ليس فقط لتدارك قيام دولة كردية على حدوده الجنوبية، بل نتيجة الإنتصارات التي حققتها سوريا مع شركائها في مواجهة الحرب الكونية عليها، واستجماع العراق لقواه الوطنية بعد رفع اليدّ الوهابية السعودية عن زرع الفتن بين مكوناته الطائفية، وأبرز نتائج الوعي العراقي جاءت، عبر دمج ألوية “الحشد الشعبي” ضمن القوى المسلحة الحكومية وتحقيق الإنتصارات المذهلة غلى داعش في الفلوجة والرمادي والموصل وحالياً في تلعفر.
والنصر الذي حققه محور المقاومة خاصة في سوريا والعراق، أعاد خلط الأوراق، وفرض على أميركا إعادة حساباتها، بحيث رفضت منذ يومين تمسُّك أكراد العراق بخطَّتهم الهادفة الى إجراء استفتاء على استقلال إقليمهم في 25 سبتمبر/ أيلول المقبل، وكررت الطلب منهم إرجاء مثل هذه الخطوة، خشية أن تؤثر سلباً على العلاقات مع الحكومة المركزية في بغداد، وتُعرقل بالتالي استراتيجية هزيمة تنظيم داعش في العراق وسوريا، وهذه الحماسة الأميركية لا تعكس حرصاً أميركياً على وحدة سوريا والعراق، بقدر ما هي استجابة لضغوط أوروبية بعد أن اكتوت أوروبا بنار الإرهاب، وبات من الواجب دعم كل من يواجهه ويقضي عليه في مهده بالشرق الأوسط.
من هذا المنطلق، ولأن أي استفتاء انفصال كردي، يأتي في سياق ما ترنو إليه داعش وخلفها أميركا وإسرائيل وبعض دول الخليج، ولأن هذا المحور يعيش زمن الهزائم مع كل معركة تُهزم فيها داعش، نشطت الإتصالات مع أربيل لمنع الإستفتاء أو تأجيله، ولو أنه غير مُلزمٍ قانوناً، ويبدو أن رئيس الإقليم مسعود البرزاني بعد الزيارات المكوكية لوزير الدفاع الأميركي، والخارجية التركي، والموقف الإيراني الرافض لمبدأ الإنفصال، ترأس المجلس الأعلى للإستفتاء ويتَّجه الى إعلان تأجيله.
وحلم بعض الأكراد بدولةٍ ممنوعة، لا يرتبط فقط بالتطورات الإقليمية التي تُعِيق بل تمنع الإنفصال، لأن الأمور الداخلية ضمن “البيت الكردي” لا تٌبشِّر بوحدة موقف وبالتالي عدم رغبة بقيام كيان كردي مستقلّ للأسباب التالية:
1) تعدُّد الأحزاب الكردية وتمايزها عن بعضها عقائدياً وقومياً وسياسياً، بحيث يتوزَّع الأكراد على ستة أحزاب في العراق، وأربعة في تركيا، وإثنان في كلٍّ من إيران وسوريا، ولو أن أبرز حزبين حضوراً هما الحزب الديموقراطي الكردستاني برئاسة مسعود البرزاني، والإتحاد الوطني الكردستاني الذي كان يتزعمه الرئيس العراقي السابق جلال الطالباني، وأُصيب هذا الحزب بالوَهَن عندما أُصيب الطالباني بمرضٍ أعقده، وخَلَت الساحة للبرزاني الذي انتهت مدة ولايته الرئاسية للإقليم منذ سنتين، ويعمل على إنفصال الإقليم وتنصيب نفسه الزعيم الكردي الأقوى، والرئيس الذي لا بديل عنه، خاصة أن ملهم الأكراد والزعيم الأكبر عبدالله أوجلان يقبع في السجون التركية منذ سنوات.
2) تنظر الأحزاب الكردية لمسعود البرزاني، على أنه يبني إرثاً عائلياً لعائلته وأبناء عشيرته على حساب مصالح الأكراد، وأن قوات “البيشمركة” الكردية باتت ميليشيا خاصة به ولا تأتمر سوى بأوامره الشخصية.
3) عدم رغبة الأكراد العراقيين المقيمين خارج الجغرافيا الحالية لإقليم كردستان العراق، بقيام دولة كردية مستقلَّة عن الدولة العراقية، وانعكاس إنفصال الإقليم سلباً، على هويتهم العراقية وسلامة اندماجهم ضمن المكونات الوطنية العراقية، وكذلك الحال بالنسبة لأكراد سوريا الرافضين لهيمنة البرزاني.
4) تمتُّع أكراد إيران بكافة حقوقهم كمواطنين إيرانيين، التي أقرَّها الدستور الإيراني تحت بند “حق المواطنة”، وتطبيق مساواة الأقليات العرقية والدينية مع باقي مكونات الشعب الإيراني.
5) خوف الأكراد المقيمين في الداخل التركي، من دفع الأثمان وطنياً وسياسياً وأمنياً واجتماعياً، وأن يكونوا “كبش محرقة” في حال قيام دولة كردية مُعادية لتركيا على الحدود الجنوبية، وليست لهم مصالح فيها.
بناء على ما تقدَّم، ولأن الأكراد اختاروا التوقيت الخاطىء عبر الإنفصال الواقعي قبل الإنفصال السياسي عن العراق، و”فتحوا على حسابهم” استخراج النفط والإتجار به مع “مافيا تركية” بمعزل عن مركزية الحكومة العراقية، ولأنهم لعبوا دوراً تجارياً مشبوهاً في بيع تجهيزات ومعدات مصانع مدينة حلب التي نهبتها الدواعش، ولأن لا مصلحة لكل أكراد الشتات في قيام كيان كردي مستقل، فإن التوقيت الذي اختاره البرزاني للإنفصال خاطىء بكل المعايير، ولن يلقى تعاطفاً دولياً وإقليمياً وحتى داخلياً، وبالتالي، ممنوعٌ عليه إجراء استفتاء، لقيام دولة ممنوعة!
المصدر: موقع المنار