في الطريق إلى الحياة، صدهم الموت. حصار وتجويع واستهداف إلى التهجير والقتل غيلة، كل صور القهر خبرها أهالي كفريا والفوعة، فالبلدتان منسيتان إلا من الآلام والمعاناة. وأكثر من عامين على الحصار الظالم جُبلت فيه طينة أهالي كفريا والفوعة بكل أنواع القهر. من هم في الداخل، فتك بهم الجوع ولاحقتهم قذائف الحقد، وكان الحصار يُحكم القبضة على أعناقهم التي ظلت تنازع دون أن تنحني. ومن ترك البلدة، ظل أسيراً لكل ما فيها من وجع، ولكل من بقووا فيها من أحبة.
شمالي مدينة إدلب تقع القريتان المنسيتان. لا شيء يُذكر عنهما في الإعلام الذي تفتح فضائياته يومياً للتباكي على أحوال السوريين. اسم البلدتين يكاد لا يُذكر هناك، وعندما سُمع على إحدى القنوات الخليجية يوماً، كان الإعلامي يصف البلدتان بـ “المستعمرات الشيعية”، لم تكن زلة ولم تكن هفوة، كان تحريضاً على المكشوف، ودوساً على زر للتفجير عن بُعد. التفجير الذي لم يوفر محافظة أو مدينة أو أياً من الأحياء السورية.
إسم كفريا والفوعة مرتبط بالحصار الذي فرضته الفصائل المسلحة على البلدتين منذ إعلان سيطرتها على إدلب، قبل ما يزيد عن عامين. والإسم مرتبط بالقذائف التي كانت تتهاوى على البلدتين، دون أن يقف “الغيارى” على “الثورة” وعلى “قتل المدنيين” لإبداء استنكار أو إدانة. واليوم بات ذكر البلدتين مرتبطاً بمشاهد القتل غيلة.
الخارجون من قراهم قهراً، كانوا على موعد مع أمل جديد بالحياة لا مكان فيه لمسلحي الخراب. أهالي كفريا والفوعة هُجروا من بلاد آبائهم، وظل هناك أمل في أن يُمنح الجيل الجديد من أبناء القرية فرضة للحياة، في مكان لا يفتك بهم حصار ولا جوع ولا ظلم. خرج النساء والأطفال وبينهم عدد من الرجال، كانت الحافلات الخارجة من البلدتين تعبر بالأطفال، وتقودهم إلى الأمل الجديد. في أذهان أولاد البلدتين صوراً كثيرة رسموها للخارج… في مخيلتهم كانت ترتسم صوراً لقرى آمنة تعبر منها وإليها بلا حصار، الأصوات فيها تعج بالحياة ولا يُسمع فيها صوت رصاص، وبيوتها تغص بالموائد المفتوحة لكل قادم أو خارج، فلا يدخلها جوع!
القرى التي هُجر منها نساء ورجال كفريا والفوعة بغصة، تركها الأطفال أملاً بقرى يكبرون فيها بلا خوف. كان الأطفال يلتصقون بالنوافذ، عيونهم مشدوهة لضوء الشمس الذي كان يتسرب إلى أعماقهم كلما عبرت الحافلات قرية إلى أخرى. الأمهات على مقاعدهن، يستذكرن الأيام الهادئية في كفريا والفوعة، الرجال أيضاً على مقاعدهم ولا شيء إلا الصمت.
عبر الحافلات قرى إدلب وصولاً إلى الراشدين، وهناك توقفت بانتظار تعليمات استكمال الاتفاق للمُضي باتجاه مدينة حلب. لم يكن هناك إلا ضجيج الحالمين بالغد المشرق، ولم يكن إلا صوت الجوع الذي لازمهم ثلاثة أيام. كان الأهالي يستغيثون بالهلال الأحمر، دون أن تلقى استغاثاتهم أي إجابة. ساعات مضت قبل أن تدخل سيارة محملة بشيء من أحلام الأطفال المتواضعة: “بطاطا شيبس”… تحلق الأطفال ومعهم الأهالي حول السيارة والأيادي مرفوعة تتصادم: من ترى يلتقط أولاً؟! مرت دقائق، والأطفال يحتشدون أكثر وأكثر ، قبل أن تدخل سيارة الموت يقودها شيطان جُرد من الرحمة… داس شيطان الموت زر التفجير، فتناثرت الأيادي، وتناثرت البطاطا وتطايرت الأجساد!
دقائق قليلة، لم يكن يُسمع فيها إلا صوت صراخ من يستغيث، أو من يأمل في أن يجد بين الجثث أحد من ذويه أو اخوته حياً. لا شيء يُرى دخان الموت الأسود طغى على كل المشاهد، ولون الدم لطخ كل الأحلام الجميلة. عشرات الأطفال ارتموا جثثاً… هذه المرة لم يفتك بهم الجوع، بل أرداهم الأمل، الذي قادهم إلى الراشدين.
بعد مجزرة الراشدين، القصص كثيرة ولكنها كلها ضمن دائرة الألم الذي يُصر على ملاحقة هؤلاء: أم فقدت ما تبقى من أبنائها، أخرى تلاحق أخبار ابنة مفقودة، وأطفال وجدوا أنفسهم بلا أب وبلا أم.
في ساحة التفجير، كان يتحلق الكل حول من له، طفلة وحيدة تبلغ من العمر 3 سنوات لم نكن لتجد من تمسك به. لا يُعرف اسمها فكلامها لا يسعفها للتعريف بنفسها، لم يُعرف إلا أنها ناجية وحيدة في أسرة استشهد جميع أفرادها!
أطفال ثلاثة آخرون وقفوا إلى جانب بعضهم، واحدهم يلوذ بالآخر، بعد أن اخذ الموت الأم والأب. وأم تتفقد أشلاء طفلين لهما، كانوا على موعد مع لقائهم بأبيهم المُبعد منذ عامين عن البلدة. و”فاطمة”، أم الأولاد الست، لم تترك لها الآلام إلا ابنة وحيدة يلاحقها المرض.. فزوجها وطفلان لهما استشهدا في مجزرة الراشدين، وكان له طفل فتك به الجوع، وآخر أردته القذائف التي استهدفت بلدة الفوعة. تحضن فاطمة ابنتها وتقول: “الهجرة ليست عيباً، العيب أن ننهزم أمام الظلم..”
أكثر من 60 طفلاً من أبناء كفريا والفوعة حصد الموت أرواحهم في الراشدين، ليقضي على أحلامهم البريئة التي لا تفقه صراع السياسة ولا لغات التكفير. الجوع قهر هؤلاء، وأحلامهم المتواضعة ” بعض المشتريات، قطعة حلوة، شيبس” نسوا طعمها قضت عليهم… قضوا غيلة في وضح النهار، ووثقت الكاميرات براءتهم، ووثقت غدر الشياطين بهم، إلا أن كل ما تم توثيقه لم يحرك ساكناً. لا مجلس أمن انعقد، ولا الفضائيات استنفرت، ولا المتباكون خرجت لهم دموع…