بفارق ضئيل تفوقت الـ”نعم” على الـ”لا” في الاستفتاء على تعديل صلاحيات الرئيس في تركيا، فقد أيد التعديل 51.35% فقط من مجمل الذين شاركوا في الاستفتاء حيث بلغت نسبة المشاركة 85.46% من مجمل الناخبين الاتراك بحسب الارقام المعلنة في الاعلام التركي، ما يعني ان ما يزيد عن نصف الشعب التركي لا يوافق على هذه الخطوة الاستثنائية في تاريخ البلاد، نظرا للصلاحيات الواسعة التي ستمنح للرئيس حيث سيصبح الى حد ما صاحب سلطات شبه مطلقة في كثير من الامور.
وصحيح انه لا يوجد اجماع على شيء في هذا الكون ومن غير المتوقع ان يحصل الاجماع على تعديل صلاحيات الرئيس في تركيا، إلا ان نسبة الذين لم يصوتوا للتعديل تثير الكثير من التساؤلات، فكيف يمكن قلب المشهد الدستوري في البلاد في ظل معارضة هذه النسبة من المواطنين؟ فهل يقبل السير بتعديلات مصيرية في بلد من البلدان من دون ان يحوز الاغلبية الساحقة او الوازنة؟ وان كانت مقبولة من الناحية القانونية النظرية ماذا عن آثارها السياسية والشعبية في مستقبل تركيا، خاصة ان المشهد في تركيا يظهر ان مرحلة سياسية جديدة بدأت هي أشبه بمرحلة تأسيسية او بوضع الاسس لتركيا الجديدة في ظل تحول النظام من النظام البرلماني الى النظام الرئاسي، فالتعديلات الدستورية بالكاد مرت من “قطوع” الاستفتاء على الرغم من كل التحضير والتجييش الذي قام به الرئيس التركي رجب طيب اردوغان وحزب العدالة والتنمية في الداخل والخارج، علما ان النظام الرئاسي الجديد سيدخل حيز التنفيذ مع الانتخابات المنتظرة في 3 نوفمبر/تشرين الثاني من العام 2019.
توسيع الصلاحيات.. بين التأييد والمعارضة
ويسوق اصحاب نظرية توسيع صلاحيات الرئيس للعديد من الاسباب ابرزها الاستقرار العام في البلاد والعمل لمزيد من الازدهار الاقتصادي والسياسي، حيث من المتصور ان جعل السلطات بيد جهة واحدة-هي رئيس الجمهورية- ستعطي هذه الجهة القدرة على العمل والانتاج بسرعة اكبر وبنوعية افضل دون اي عراقيل تذكر قد تعترضها من قبل جهات معارضة سياسية وبرلمانية، إلا ان التمعن والتدقيق بحجم الصلاحيات الممنوحة للرئيس يدفع للتوقف والتفكير جليا بصوابية هذه التعديلات وخلفياتها السياسية التي قد تكون مرتبطة بطموحات شخصية ضيقة وبأحسن الاحوال برغبات حزبية جامحة.
ومن أبرز التعديلات الدستورية التي أقرها الاستفتاء بعد البرلمان التركي، هي: عدم قطع رئيس الدولة صلته بحزبه، ولاية رئيس الدولة 5 سنوات ولا يحق للشخص أن يتولى منصب الرئاسة أكثر من مرتين(إلا اذا قرر البرلمان السماح للرئيس بالترشح لولاية ثالثة)، المرشح الذي يحصل على أغلبية مطلقة في الانتخابات يفوز بمنصب الرئاسة، رئيس الدولة يتولى صلاحيات تنفيذية وقيادة الجيش ويحق له تعيين نوابه والوزراء وإقالتهم، يعرض الرئيس القوانين المتعلق بتغيير الدستور على استفتاء شعبي في حال رآها ضرورية، يحق للرئيس اصدار مراسيم في مواضيع تتعلق بالسلطة التنفيذية لكن لا يحق له إصدار مراسيم في المسائل التي ينظمها القانون بشكل واضح، يعتبر المرسوم الرئاسي ملغى في حال أصدر البرلمان قانونا يتناول نفس الموضوع(بالطبع يحتاج مثل هذا الامر اغلبية برلمانية معينة قد لا تتوافر ضد الرئيس)، يحق للبرلمان طلب فتح تحقيق بحق رئيس الدولة ونوابه والوزراء ولا يحق للرئيس في هذه الحالة الدعوة إلى انتخابات عامة(وهنا ايضا يحتاج التحقيق لاغلبية برلمانية تصل الى 400 نائب على الارجح لن تتوافر ضد رئيس البلاد)، يحق للرئيس تعيين نائب له أو أكثر.
كما تنص التعديلات على انه: يحق للرئيس إعلان حالة الطوارئ في حال توفر الشروط المحددة في القانون كما يمكنه من اعلان حالة الحرب، رئيس الدولة يعرض الميزانية العامة على البرلمان، يلغى مجلس الوزراء (يلغى منصب رئيس الوزراء) ويتولى الرئيس مهام وصلاحيات السلطة التنفيذية بما يتناسب مع الدستور، تجري الانتخابات العامة والرئاسية المقبلة في 3 نوفمبر/ تشرين الثاني 2019(موعد دخول النظام الرئاسي حيز التنفيذ رسميا).
كما ينص التعديل على رفع عدد نواب البرلمان من 550 إلى 600، خفض سن الترشح لخوض الانتخابات العامة من 25 إلى 18 عاما، تجري الانتخابات العامة والرئاسية في نفس اليوم كل 5 سنوات، يستخدم البرلمان صلاحيته في الرقابة والتفتيش والحصول على معلومات عبر تقصي برلماني أو اجتماع عام أو تحقيق برلماني أو سؤال خطي.
ضرب مبدأ الفصل بين السلطات.. دولة القانون على المحك!!
من كل ذلك يمكن الملاحظة ان الرئيس يتمتع بصلاحيات واسعة تجعله أقرب الى الحاكم المطلق حتى بمواجهة السلطة التشريعية، خاصة ان الرئيس سيكون مستندا الى اغلبية نيابية لحزب العدالة والتنمية، وهي أغلبية ستزداد اكثر فاكثر مع رفع عدد النواب وبالتالي الاصوات المعارضة لسياسات الحزب واردوغان ستتقلص.
كما ان توسيع صلاحيات الرئيس لا يشمل توسيع صلاحياته كسلطة تنفيذية كما هو الحال في الانظمة الرئاسية الاخرى حيث يعين الوزراء الذين يعتبرون مساعدين له، بل في “النسخة التركية” للنظام الرئاسي الرئيس يمكنه إصدار مراسيم اشتراعية تنزل منزلة القانون وهو سيصدرها بدون تفويض من البرلمان ومن دون العودة اليه كما يفترض في حالة المراسيم الاشتراعية التي تستوجب اذن البرلمان في حالات محددة وعرضها عليه عندما تسمح الظروف بذلك، اي ان الرئيس التركي سيصبح لديه القدرة على التشريع الى جانب السلطة التشريعية.
والصلاحيات الممنوحة للرئيس التركي بموجب التعديلات الجديدة تضرب مبدأ الفصل بين السلطات الركيزة الاساسية لاي نظام ديمقراطي في العالم، فهذا المبدأ يقوم على الفصل والتعاون بين سلطات الدولة: التنفيذية والتشريعية والقضائية، بحيث يكون لكل سلطة من السلطات مهام محددة بالدستور منفصلة عن غيرها وتمارسها باستقلالية ودون تدخل على ان يكون ذلك بتعاون ايجابي لما فيه مصلحة البلد، ومما يزيد من ضرب هذا المبدأ ان الرئيس التركي لديه صلاحيات واسعة في تعيين وعزل القضاة ما يفسر تدخلا بعمل السلطة القضائية، كما يتحدث البعض ان إلغاء المحاكم العسكرية والابقاء على المحاكم المدنية فقط سببه ليس الحفاظ على الحريات العامة ومنع السرعة والتسرع في المحاكمات، انما الهدف الحقيقي منه ان اردوغان لديه سلطة اكبر على المحاكم المدنية من العسكرية ما يجعله اكثر قدرة على تصفية الحسابات مع كل من ارتبط او تدخل بمحاولة الانقلاب في تموز/يوليو الماضي، ناهيك عن قدرته على ملاحقة خصومه ومنتقديه.
وبالاضافة الى ذلك فإن الرئيس رجب طيب اردوغان ضمن -او هكذا يفترض- بموجب هذه التعديلات انه سيبقى لمدتين رئاسيتين جديدتين تبدأ الاولى منها في تشرين الثاني/نوفمبر 2019، اي ان اردوغان سيضمن البقاء على رأس تركيا الى نهاية العام 2029، كما يمكنه البقاء حتى العام 2034 اذا ما قرر البرلمان السماح للرئيس بالترشح لولاية ثالثة، من كل ذلك يطرح السؤال المحق ألم يفصّل اردوغان كل هذه التعديلات على قياسه الخاص؟
المصدر: موقع المنار + وكالات