لسنا نتناول من وجهة نظر دينية، ذكرى الجمعة العظيمة التي يُحييها المسيحيون في ذكرى “آلام السيد المسيح” عليه السلام، بل نتناول الشهادة من الناحية الثقافية الإنسانية، ما دام صلب الناس مستمرا منذ علَّقوا إبن الإنسان على خشبة، وما دام على الأرض ظلم وظَلَمة ومظلومون.
منذ العام ثلاثين ميلادي، حين أصدر المجلس اليهودي الحاكم، المؤلف من كهنة اليهود والفريسيين، توجيهاته بالتآمر على يسوع للتخلص منه، وأذعن الحاكم الروماني لفلسطين يومذاك بيلاطس البنطي لتهديدات اليهود بإحداث الشَغَب إذا رفض مطالبهم، وأمَرَ بالقبض على يسوع بمساعدة أحد تلاميذه يهوذا الإسخريوطي، وتسليمه للسلطات الرومانية الحاكمة بتُهمة خيانة الدولة، وصُلِب كما يُصلب القتلة والمجرمون في موقع الجلجلة، بدأ التاريخ الموثَّق يكتب عبر مئات السنين، وقائع المواجهة للطغيان الظالم على الحق المقموع، ولو أن هذا التاريخ قد وثَّق بشكل واسع في القلوب والضمائر المؤمنة واقعتين إثنتين تتشابهان في الحيثيات والظروف، واقعة صلب السيد المسيح على الجلجلة واستشهاد الإمام الحسين في كربلاء.. عليهما السلام.
وإننا إذ نكرر، أننا نتناول الأمر من وجهة ثقافية إنسانية، فمن الأفضل تنزيه الكُتب السماوية والتأريخات والإجتهادات الدينية مسيحية كانت أم إسلامية، عن الروايات التاريخية، لأن مصادر التأريخ للوقائع متوافرة بالملايين من الدراسات بمعزل عن التوجيه الديني، إضافة الى أن إحياء مراسم الجمعة العظيمة ووقائع كربلاء لم تعُد تقتصر على شعائر دينية إيمانية، بل باتت ثقافة الحق الغاضب على الظلم، تتناقلها الأجيال لأن الظلم لم ينتهِ في هذا العالم، ولا نهاية منظورة له سوى بردع الظالم بقوَّة الحق، والقضاء على إرثه وثقافته بمعزلٍ عن أي انتماء ديني أو عرقي أو مناطقي، سواء كان هذا الظالم من مدرسة التكفير التي أسَّسها بيلاطس البنطي مع اليهود أو مدرسة يزيد بن معاوية، وما تلاهما من مدارس رفض الآخر ونشر تعاليم الحقد حتى الموت، على كل صاحب حق، وعلى كل مظلومٍ مُطالِبٍ بهذا الحق.
وإذا كانت ثقافة تكفير الآخر، لمجرَّد أنه “آخر”، سواء في العرق أو الدين أو المذهب، هي التي اعتمدها الظالم عبر التاريخ بحقّ الضعيف المُطالب باحترام إنسانيته، فإن ردود الفعل على الظلم تتفاوت بين الشعوب، وهنا تكمُن أهمية الإيمان المُتوارَث برفض ما ارتكبته أيادي الرومان واليهود بحق السيد المسيح، وما ارتكبه يزيد بن معاوية بحق الإمام الحسين، لأن الإثنين عليهما السلام لم يطمحا لسلطة دنيوية بقدر ما كانت مصلحة الجماعة وإرساء المحبة والإخاء والعدل بين البشر عنوان رسالتهما، ومن هذا المنطلق، باتت الجمعة العظيمة لدى المسيحيين ذاكرة مؤلمة قائمة بذاتها، ولو أنهم يعيشون بعدها فرح القيامة، وباتت موقعة كربلاء لدى أبناء الحسين رفضاً متوارثاً لإنتصار سيف القهر، واستلهام الفكر الحسيني في الثورة على الظلم أساساً لإرساء العدل ورفع المظلومية.
وإننا إذ بلغنا عصر صواريخ “توماهوك” بدلاً من السيوف، في تطويع المُطالبين باحترام كرامتهم وحقوقهم، فإن من واجهوا السيوف عبر تاريخهم، لن تُرعِبهم أدوات الموت الحديثة التي تتساقط من السماء، وهنا بيت القصيد، وعلى من يدَّعي زوراً الدفاع عن حقوق الإنسان ويُبيح لنفسه استخدام اليورانيوم وامتلاك النووي والإقتصاد القائم على تصنيع الأسلحة وإجراء التجارب عليها بالشعوب المظلومة، أن يُدرِك، أن الشعوب التي واجهت سابقاً بالصدور العارية، تمتلك اليوم أسلحة الدفاع عن النفس، وذخيرتها هي الجرأة في الحق وفي المواجهة حتى الشهادة.
إن كافة الإستعراضات الغربية بالتواطؤ مع أحفاد بيلاطس ويزيد على أبناء الشرق، واستنفار “الكاوبوي الأميركي” الجديد دونالد ترامب لإستعادة آحادية حُكم العالم، والتهديد بحلف الناتو لفرض سياسات مُعادية للأنظمة الُحرَّة الرافضة للهيمنة الظالمة، جميع هذه المحاولات ستكون فاشلة، لأن ليس كل ما يتساقط من السماء يُرعِب أهل الأرض- لأن لكل شعبٍ طبيعته- ونحن في لبنان بالذات، لدينا التجربة في كسر القرارات الفوقية، وإذا كانت غارة صواريخ التوماهوك قد أحدثت أضراراً في قاعدة عسكرية سورية بذريعة استخدام الكيماوي واستباق التحقيق بهذه المسألة، فهذا لا يعني أن المُنتصر على أرضه سوف يسجد للإستعراضات الجوية، ومحور المقاومة في مواجهة من صنعوا الإرهاب وصدَّروه، هو الوحيد القادر على إنهاء ظاهرته الشيطانية، وما على إسرائيل ومعها دول الخيانة العربية التي رقصت بالسيوف لصواريخ التوماهوك أن تتذكَّر، أن من واجهوا بالسيوف ظلم الأقدمين، لن تُرعبهم أميركا ومعها الغرب، لأن “توماهوك” الظلم تنتظره صواريخ قادرة على إسكان الإسرائيليين وعرب الخيانة في الملاجىء، والى مسيرة فداء مُعاصرة من القدس الى كربلاء طالما هناك ظالم لن يردعه سوى مظلوم يمتلك الكرامة ذخيرة مواجهة…
المصدر: موقع المنار