كأيّ عربيّ غير مرتبطٍ بالمنظومة السعودية، ويعرف أنّ سياسة المملكة هي المضاد الحيوي لأي أملٍ سياسيٍ في المنطقة، قضيت عمري وأنا أخاف من أن يأتي، ذات يومٍ، ملكٌ سعوديّ شابّ، حازمٌ وجدّيّ، يركّز السّلطة ويلجم الفساد وينظّم بلاده على أسسٍ جديدة، ويحوّل القدرات المالية لهذه المملكة الرجعية الى قوّةٍ سياسية لا رادّ لها (فنحن في حاجةٍ الى أن يكون آل سعود على قدرٍ أسطوريٍّ من انعدام الكفاءة والطيش، فقط حتى تكون لنا فرصة ضدهم ومساحةٌ للمناورة).
بعد أحداث الأيام الأخيرة، صار يقيناً أنّ الأمير محمد بن سلمان ليس ذاك الرّجل.
ليس في الأخبار الأخيرة عن «رؤية 2030» السعودية من جديد؛ فالأمير كان قد فصّل للجمهور الغربي منذ أشهر، عبر عدّة مقابلات، كامل تفاصيل «الخطّة» قبل أن يتكرّم ويشارك بها شعبه يوم الإثنين. غير أنّ الإعلان الرّسمي، ومقابلة «العربية»، كانت «كلمة السر» حتّى تنطلق الأبواق في تقريظ الأمير ورؤيته، والتبشير بأنّ المستقبل مشرق ومشاكل السعودية قد حلّت. في الإعلام الغربي السائد، الى اليوم، لا توجد مقالات نقدية جديّة عن خطة الأمير؛ والمجلات الكبرى (التي تسخر بحرية من كلّ نظام يعادي أميركا، وتشرّح سياساتها الاقتصادية بتشكّك، وتقرر سلفاً أن كلّ ما يقولونه امّا كذبٌ أو أوهام) لا مصلحة لها في إهانة مملكة تتحكم بمئات مليارات الدولارات في السوق.
«بلومبرغ» اكتفت بنقل كلام الأمير، مع تعليقات مقتضبة؛ و»ايكونوميست» اجتهدت حتّى تصوغ تعبيراً يوصّف توقّعات الأمير غير المنطقية من دون أن تسفّهها: «تفاؤل الى حدّ الهوس». بل إنّ أغلب هذه المطبوعات ــــ ومعها «رويترز» ــــ اعتمدت الخطاب الذي يعتبر أنّ العقبة الأساسية أمام خطة الأمير، وسياسات الدولة السعودية عموماً، هي الشّعب، ومقدار تجاوبه، واستعداده للتضحية و»لعب الدور» المرسوم له، وقدرته «الثقافية» على تقبّل رؤية الأمير التي تسبق عصرها (المفارقة أنّ احدى الوسائل الأجنبية القليلة التي قدّمت تغطية نقدية للخطّة كانت القناة الرسمية الصينية، التي استضافت استاذة جامعية شرحت بوضوح أنّ دولة تعاني عجزاً ضخماً ومتطلبات مالية كبيرة من المستحيل أن تنجز هكذا تحوّل، وأن سياسة بناء اقتصادي في الداخل لا تتوافق مع استراتيجية صراع وحروبٍ في المنطقة).
الّا أنّ هذا الإعلام الغربي، رغم كلّ شيء، استنكف عموماً عن مديح الخطة أو التنبؤ بنجاحها، فيما أخذ الإعلاميون العرب الذين يدورون في الفلك السعودي، أي الأكثرية الساحقة، راحتهم في الانبهار بحكمة الأمير. من المتوقّع أن تقوم حملة بروباغاندا جامحة في الدّاخل السعودي، ولكنّ المذهل كان كمّ الإعلاميين العرب واللبنانيين الذين انغمسوا في هذا الطّقس. بل أنّ أحدهم ــــ من الواضح أنّه لم يفهم الخطّة ــــ قرّر أن رؤية الأمير ليست أقلّ من «ثورة». حتّى نوضّح،
هذا السّلوك ليس جديداً، بل إنّ «ضيوف الجنادرية» والطامحين اليها كانوا يكتشفون في كلّ ملكٍ سعوديّ حكمةً مماثلة: كانت الدعاية عن الملك عبد الله، طوال عهده، تقدّمه كـ»ثوري» يبني السعودية الحديثة، ويزرع البلد جامعاتٍ ومدناً اقتصادية؛ وقد عجّ عهد الملك فهد بالخطط لتجاوز الإعتماد على النفط؛ بل أن الوزير السعودي الراحل غازي القصيبي يشرح في مذكّراته كيف أنّ ملوك السعودية الأوائل كانوا يختزنون، بالسليقة والفطرة، أحدث النظريات العالمية عن التنمية. «الرؤية» الوحيدة المؤكّدة هنا تتعلّق بالأمير محمّد والعرش، وأنّ الإعلام العربي صار متاحاً له أن يتكلّم عنه، علناً، باعتباره الملك القادم وصانع القرار الفعلي في البلد (وهو ما تفعله الصحافة الغربية منذ أشهر).
ولكن، بالحديث عن الأمير و»الثورة» (والمقاييس «الثورية» لدى هؤلاء)، لم ينتبه أحدٌ على ما يبدو، شرقاً وغرباً، الى المشكلة «الديمقراطية» في أن يقرّر أمير، بمفرده ومن دون أي رقابة أو شراكة، مستقبل الشعب السعودي بأسره لأجيال قادمة (ماذا لو كان على خطأ؟)، وأن يمرّر ــــ ببساطة متناهية ــــ مشروعاً يخصّص النّفط السعودي وكلّ أملاك الدولة. في مقابلته مع «العربية»، قال بن سلمان موجزاً نظرته الى الثروة النفطية «ما هو النفط؟ النفط مجرّد استثمار»، بمعنى انّه لا يقاس الّا بقيمته السوقية وعائده، ومن الممكن تحويله الى أصولٍ أخرى.
غاب عن المستشارين الذين درّبوا الأمير على المقابلة أن يعلموه بأنّ النفط ليس «مجرّد استثمار»، بل هو ملكية وطنية للشعب، موجودة في هذه الأرض قبل مجيء آل سعود، وهي (نأمل) ستظلّ بعد رحيلهم، وليست ملكاً لوالده حتى يضارب بها في الأسواق العالمية.
من يقرأ النص الكامل لـ»الرؤية» يكتشف انّها، كمقابلات الأمير، لم تعطِ إجابات واضحة عن أي من الأسئلة الحرجة التي تشكّل أساس المعضلة السعودية: سياسة التوظيف في القطاع العام الذي يستوعب أكثرية اليد العاملة المحلية، السياسة الضريبية، المشاكل الداخلية والتفاوت في الدّخل، الخ. الأمير يتكلّم على السعودية كأنها مجتمع بلا طبقات ومحرومين، ولا يقيس أثر سياساته على هؤلاء؛ وهو حين يتحجّج بالأغنياء واسرافهم لرفع الدّعم وفرض رسوم، يتناسى أن ضريبة القيمة المضافة هي في النهاية ضريبة استهلاك، تثقل على الفقير ــــ كرفع الدعم ــــ أكثر من الثري، لأنها تطال نسبةً أكبر من دخله، مهما كان استهلاك الأثرياء أكبر بالمعنى الفردي (الوسيلة الحقيقية لمشاركة أصحاب الأموال في أعباء المجتمع تتمثل في ضرائب الدخل والأرباح والرساميل، وهي غير مطروحة في الإطار السعودي).
تسييل الأصول السعودية واستثمارها في الخارج وهذه، باختصار، خطّة بن سلمان، هو طرحٌ رابحٌ للعديد من الأطراف: من الأمير نفسه ومحيطه، الى الغرب والشركات الكبرى، وصولاً الى المستشارين والمجلّات الإقتصادية والإعلاميين. الخاسر الوحيد في هذه المعادلة بأسرها هو الشّعب السّعودي؛ ولهذا السّبب لن تنبري أيٌ من المطبوعات الكبرى لتقول، ببساطة، ان «الامبراطور عار» وان الخطة، كما هي الآن، مضحكة وكارثية.
في أفضل تعبيرٍ عن واقعية «الرؤية»، طرح المحاور في «العربية» سؤالاً واحداً جيّداً على الأمير، عن مشكلة الإسكان والبطالة، وهي (على عكس بناء المتاحف والسياحة و»الترفيه») قضايا حقيقية جدية تحتاج الى حلّ. أجاب الأمير بما معناه «لماذا تشغلني بهذه التوافه؟»، مردفاً أن الخطّة وطموحاتها سوف «تتجاوز» هذه النوافل وتحلّها تلقائياً. بالتوازي مع هذه الأحداث، يقول خبرٌ منفصل في «بلومبرغ» إنّ سوق الاستشارات في الخليج، على رغم انخفاض أسعار النفط وتوقف المشاريع الكبرى، في حالة ازدهارٍ وطلبٍ مرتفع. بمعنى ما، فإن هؤلاء المستشارين، في «ماكنزي» و»بوز» وغيرهما، هم الحلفاء الحقيقيون لبن سلمان، وحكّام السعودية الجد.