لطالما شكّلت الهجرة لأبناء لبنان هاجساً يؤرق حياتهم حيناً ويدفعهم طوراً بعيدا عن بلادهم حيناً أخر، وقليلة هي الدراسات الأكاديمية التي تعرضت إلى ما تفرزه الهجرة وأزماتها من مأزق في الهوية والانتماء الإنساني، سواء على الصعيد الشخصي أو الجمعي. “الهجرة وأزمة الهوية اللبنانية في رواية بدايات لأمين معلوف”، كان عنواناً لكتاب الدكتور زينب الطحان، والذي مثّل جزءا أساسيا من رسالتها في الماجستير، طرحته يوم أمس للنقاش والنقد مع كل من الدكتورة راغدة المصري، والدكتورة لميس حيدر، والأستاذ الكاتب الصحفي عبدالرحمن جاسم من جريدة الأخبار، في ندوة ثقافية رعتها جمعية “إبداع” وملتقى الأدباء والشعراء وبلدية حارة حريك من ضمن أسبوع المطالعة، وقدمت الندوة الزميلة الإعلامية عفاف علوية.
الكلمة الأولى ألقاها الشاعر علي عباس باسم جمعية إبداع، الذي أكد على اهمية الحضور الأدبي في الأنشطة الثقافية العامة، ولفت إلى ما تؤدية الكاتبة من حضور لافت في المجالس الثقافية والأدبية، وما تثيره من إشكاليات نقدية تثير البحث والتحصيل.
الدكتورة راغدة المصري تحدثت عن “الأديبة المؤرخة”، الباحثة زينب الطاحن، التي أجادت بقدرة عالية الغوص في عمق البحث التاريخي الأدبي في رواية بدايات أمين معلوف، وأبدت تميّز هذه الدراسة بالجدّية “وهي (أي الكاتبة) تغوص عميقاً في ثنايا الأدب الفرنكوفوني تتوسل الكشف عن عدد من الإشكاليات التي ترتبط به، وبخاصة إشكالية الهوية وما تتضمن من قضايا نظرية وايديولوجية على غير صعيد. وكما تتميز بالشمولية والعمق كمؤرخة للأدب اللبناني الناطق بالفرنسي ومراحله التاريخية، فهي لا تكتفي بالنقد الادبي الوقائع من خلال رواية بدايات، بل تبحث جذور ازمة الهوية والانتماء العربي وبالأخص لدي اللبنانيين والكشف عن الاسباب البعيدة الكامنة وراء بروز اشكالية الهوية، المزمنة في قلب الصراع بين الشرق والغرب منذ الحروب الصليبية وما صقّلته الارساليات التبشيرية الغربية في سورية الكبرى، وخصوصا في جبل لبنان.
وتتابع الدكتورة المصري :” إلا إن الأمر اللافت في كتاب الباحثة زينب الطحان، أنها اعتمدت منهجا خاصا بها في مقاربة الحدث وسرده وتحليله، وضبط مسبباته وتوقع تداعياته، وربطه بما يتجاوز لحظة وقوعه فتبدو معها كتابة التاريخ بمعنى الزمن الماضي كتابة للراهن والاتي، معتمدة العديد من المصادروالمراجع والمقالات.
والكلمة الثانية كانت للدكتورة لميس حيدر، إذ قالت عن مؤلفة الكتاب إنها “تحلّلُ بانسيابيةٍ، فتتدفّقُ الأفكارُ طوعاً، غير مستعصيةٍ على المدارك. تدرجُها بأسلوبٍ فيّاضِ النضجِ، قلَّ نظيرُه. وتتراكمُ المعلوماتُ في الذهنِ، الذي يتماهى مع المعرفةِ المُغْدَقَةِ في البناءِ التحليليِّ المتمكّن، والمتمرِّس، والمتفرِّسِ في عينيك المتنبّهتين، اللتين تزدهران تألّقاً في أثناء متابعتِك المقصود. وكلّما كشفَتِ الجُمَلُ الحُجُبَ عن معالجةٍ لم تكنْ ضمنَ المتوقّعِ، تلهفْتَ لاكتناهِ جودةٍ، تسرُّ لك بهدوءٍ أنّك جاوَرتَها المعرفةَ هنا.”. وتتابع الدكتورة حيدر بقولها : هذا التفاعلُ بين النصِ، والمتتبعِ لحيثياتِه، لا تنقطعُ أواصرُه على مدى صفحاتِ الكتاب، ولا تذبُل، ولا تلين، لذلك كلّما جلْتَ في غورِ العناوين، عَرَفْتَ أنَّ المزيدَ سيكونُ الأغنى، والأوفى، وتبيتُ مرحلةُ خوضِ رحلةِ القراءةِ متعةَ اكتشافِ خصوصيةِ التحليلِ، وعمقِه، ونجابتِه.
و” لا تهادنُ الكاتبةُ في تحليلِها، ولا تنحازُ في قراءتِها، وتثيرُ الريبةَ في ذهنِ المتلقي حينَ يَجب، وتتركُ عقلَه للثباتِ حيثُ ترى ذلك صائباً. تثيرُ أسئلةً منطقية، غرضُها النفعَ، لا الإلزامَ، لذلك تتجلّى حياديةُ استقرائِها نابعةً من فهمِها المعرفيِّ، الهادفِ إلى الإقناعِ المؤسَّسِ على الأدلةِ الثابتة، التي لا يرقى إليها الشكُ، وهي لا تتوانى عن الإشارةِ في أثناء دراستِها إلى الركائزِ العقليةِ المستمَدّةِ من كتبِ الدارسين قبلَها، فتكشفُ عن أفكارِهم، وهذا يتلاءمُ وطبيعةَ العملِ الجادِ، الذي تختطُّه كلُّ دراسةٍ منهجية”.
الكاتب الصحفي عبدالرحمن جاسم ارتجل في مقدمة كتابه ما أحب لفت النظر إليه وهو تحوّل الدراسات الأكاديمية (رسائل الماجستير والدكتوراه) في السنوات الأخيرة إلى بحوث جافة لا روح فيها تغرق في عملقة اللغة الأكاديمية التي لا يفقهها إلا المحترفون وهم الأساتدة المشرفون في الصرح الجامعي، وهذا ما جعله يضع الكتاب، موضوع الندوة، على الرف حين أعطته إياها الدكتورة زينب الطحان، ولكنه اضطر للرجوع إليه بعد فترة نظرا لحاجته عن مصدر يتحدث عن أمين معلوف فاكتشف أن البحث مميز بشكل كبير عن الشكل النمطي لهذه الدراسات من حيث اللغة والمعالجة ومحاكاة الإشكالية من بابها النقدي البحثي في مادة الأدب النقدي. وبرأيه أن بحث الكاتبة يتميز بفرادة في هذا باب الذي تفتقر إليه المكتبة العربي بشكل خاص. ودعا المؤلفة إلى المزيد من هذه الأبحاث التي تحمل الجدية والرصانة. كما ألفت إلى أن أمين معلوف تمكن من الوصول إلى العالمية الأوروبية بعد تنازلها عن الهوية الأصلانية وارتباطه العربي وهو الذي يصرّ على أنه الروائي الفرنسي، غلى جانب هجومه الدائم على الإسلام واتهامه له باضطهاد الأقليات في عهد الإمبراطورية العثمانية، مزورا العديد من الحقائق التاريخية في روايته “بدايات” وهو ما كشفت عنه الباحثة مؤلفة الكتاب.
الكلمة الختامية كانت للدكتورة زينب الطحان، المؤلفة، والتي ركزّت على ما تمثّله الرواية من دور خطير في القرن الحادي والعشرين نظرا لتمكنها من تشكيل وجدان القارئ، وقالت :” من هنا تأتي الرواية لتحفر في الذاكرة التاريخية للأمم وتكتب لها مسيرتها. وما الاحتفاء بالرواية اليوم إلا لأنها تمثل هذا الدور الخطير. وهي تصبح أكثر خطورة عندما تبدأ بممارسة تحريف قلب الصراع بين الحق والباطل. وتعود مع القرن الواحد والعشرين لتتابع الإشاقة نفسها مع فلسفة ما بعد الحداثة التي ترسم لها أفقاً متعرّجاً يحيل القيم الإنسانية الكبرى التي كافحت من أجلها الشعوب إلى معالم من “الفوضى الخلاقة” تجعلها لا قيمة لها أمام حرية منفلتة وسلطة مستبدة تمارسها مفاهيم العولمة الثقافية تحديداً”.
وتتابع المؤلفة قولها : “سقت هذه المقدمة لأقول إن أدب أمين معلوف، الروائي اللبناني – الفرنسي، والحائزة جوائز عالمية عديدة، لم تكن إلا تتويجاً لمنهج عصي على الإدراك علينا نحن الذين تربيّنا على معاني محددة لهوية متأصلة في ذواتنا.. منهج يكاد يمسح شعوب العالم تحت مسميات مثل مفاهيم التعددية الثقافية والهويات القاتلة وكأن هوية المرء عدوه الأول .. وكل ذلك لتأسيس نظرية مغايرة مفادها أن التمسك بالهوية الأصلانية ليس سوى ضرباً من الوهم لأن العالم من حولنا يشهد تغييرات ساحقة تستدعي معها خلع ثوب الهوية المحلية لتصير في ركب العولمة. وما هي في الحقيقة سوى الوجه الحقيقي للإمبريالية الغربية المعاصرة والمتمثّلة في أميركا وربيبتها “إسرائيل”، لتسوّغ انحلال هويات المهاجرين اليهود إلى فلسطين المحتلة من جهة ولتدفن إلى الأبد أي مسوّغ للفلسطينيين للتمسك بهويتهم الأصيلة من جهة أخرى”.
وفي الختام وقعّت الكاتبة نسخا من كتابها للحاضرين.