كيف خاض لبنان مفاوضات وقف العدوان؟ – موقع قناة المنار – لبنان
المجموعة اللبنانية للإعلام
قناة المنار

كيف خاض لبنان مفاوضات وقف العدوان؟

حزب الله
حنين الموسوي

لم يكن دخول اتفاق وقف اطلاق النار في جنوب لبنان يوماً عادياً. ففي 27 تشرين الثاني/ نوفمبر 2024، حققت المقاومة انتصاراً على آلة الحرب الإسرائيلية، مانعة إياه من تحقيق أهدافه المعلنة، وهي القضاء على المقاومة أولاَ، واحتلال أجزاء من لبنان ثانياً، بالإضافة إلى أهداف سياسية تحدث عنها رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو.

وفي خضم المعركة العسكرية، كانت معركة أخرى تجري خلف الكواليس، هي المعركة السياسية التي خاضها المفاوض اللبناني، وفوّض حزب الله الرئيس نبيه بري بإتمامها نيابة عن المقاومة.

مسار الحرب

دخل حزب الله معركة “طوفان الأقصى” كعنصر إسناد لإخوانه في غزة، والذي اعتبره أمراً مشروعاً على المستويات الأخلاقية والدينية والإنسانية والوطنية.

بداية، قامت المقاومة بافتتاح عمليات الإسناد ضد مواقع العدو التي أقيمت في أراض لبنانية لا تزال محتلة (مزارع شبعا، تلال كفرشوبا)، ثم امتدت الى مواقع متقدمة للعدو على طول الحدود. وأدت هذه العمليات بمجملها الى إشغال جزء كبير من جيش العدو ودفاعاته الجوية، وألحقت بمواقعه الأمامية والخلفية خسائر كبيرة، وقدّمت المقاومة مئات من مجاهديها شهداء على طريق القدس. وبقيت المواجهات بوتيرة معينة على مدى شهورـ وكان أداء حزب الله في هذه المعركة مدروساً، يراعي التوازن بين الحاجة الى تقديم الإسناد لغزة وظروف لبنان الخاصة، ساعياً الى تجنب توسيع نطاق الحرب.

ثم بدأ العدو الإسرائيلي في صيف 2024 نقل جزء رئيسي من قواته الى الجبهة الشمالية، وأقدم في أيلول/ سبتمبر على شن عدوان واسع طال كل لبنان، وأصبح سياق المعركة مشابهاً لسياق معركة غزة. وتمكنت المقاومة على مدى 66 يوماً من إيقاف الهجوم البري الإسرائيلي، وصعّد العدو هجماته على المدنيين، ما أدى الى نزوح ما يزيد على مليون شخص من منازلهم. وخلف العدوان الإسرائيلي آلاف الشهداء والجرحى، وأحدث دماراً كبيراً في المنشآت المدنية والبنى التحتية.

وقدمت المقاومة ثلة من خيرة قياداتها ومجاهديها في هذه الحرب، في طليعتهم الأمين العام السيد حسن نصرالله ورئيس المجلس التنفيذي السيد هاشم صفي الدين، إلى جانب قادة عسكريين كبار.

حقق العدو أهدافاً كبيرة في بداية العدوان، لكن آلته الحربية الضخمة لم تتمكن من ترجمة هذه الإنجازات على الأرض وبقيت تراوح مكانها بفعل صمود المقاومين الذين جابهوا وأحبطوا محاولات التقدم المعادية على محاور عدة. وبعدما ظلت نيران المقاومة البعيدة المدى تضرب الجبهة الداخلية للعدو وصولاً الى منزل رئيس وزرائه وقواعده الجوية والبحرية ومراكزه الإستيطانية الرئيسية في الكريوت وحيفا وتل أبيب وغيرها، طلب العدو وقف إطلاق النار. ووافق حزب الله على وقف النار، على أمل وضع حد للعدوان وعدم تحميل لبنان خسائر إضافية أكبر، بعد أن قررت الدولة التصدي لحماية الحدود الجنوبية وإخراج العدو من الأراضي التي احتلها. وكان هذا الإتفاق فرصة لتؤدي الدولة واجباتها وتختبر قدرتها.

عن أسرار المفاوضات

كان هناك محدِّد ثابت وأساسي لدى حزب الله وحليفه رئيس مجلس النواب ورئيس حركة أمل نبيه بري، وهو الرفض القاطع لأن يأخذ العدو بالسياسة ما لم يستطع أخذه في الميدان. وتحت سقف هذه الثابتة، تم التفاوض. وكان الرئيس بري على اطلاع تام ودائم حول مجريات الميدان وقدرات المقاومة، بعدما استعادت عافيتها وتوازنها في أعقاب الضربات التي ظنّ العدو أنه استطاع من خلالها القضاء على المقاومة بالكامل.

وكان الخط الساخن مفتوحًا بين الرئيس بري وقيادة حزب الله طيلة أيام الحرب. وفي المقابل، حاول المبعوثون الأميركيون ومن يدور في الفلك الأميركي ممارسة ضغوطات كبيرة من أجل الحصول على تنازلات من المفاوض اللبناني الذي كانت أوراقه التفاوضية تزداد قوة بفضل تطورات الميدان.

وفي مراحل المفاوضات الأولى، سلّم المبعوث الأمريكي عاموس هوكشتاين رئيسي مجلس النواب والحكومة نبيه بري ونجيب ميقاتي ورقة كانت أشبه بـ “عرض إستسلام”، حيث عرض هوكشتاين تصورًا جديدًا للقرار 1701 يقوم على مبادئ مختلفة وتعديلات مقترحة لا تقتصر على آلية التنفيذ، بل على أساس المهمة.

كما أن ورقة هوكشتاين تطلب تعديل نص مقدمة القرار، لجعله قرارًا “يهدف إلى إحلال “السلام” على الحدود بين لبنان والكيان الإسرائيلي، ومنع أي وجود مسلح في المناطق اللبنانية القريبة من هذه الحدود”. وفي نقطة ثانية، يطلب “توسيع النطاق الجغرافي لسلطة القرار الدولي إلى شمال نهر الليطاني بمسافة عدة كيلومترات، وأقله كيلومتران إثنان”، على أن يصار إلى “زيادة كبيرة في عديد القوات الدولية العاملة ضمن قوات حفظ السلام، ورفع عديد قوات الجيش اللبناني المفترض نشرها في تلك المنطقة”.

كما شملت ورقة هوكشتاين أيضًا “توسيع مهام القوات الدولية، بحيث تشمل الحق في تفتيش أي نقطة أو مركبة أو موقع أو منزل يشتبه بأن فيه أسلحة، وكذلك توسيع نطاق عمل قوات الطوارئ الدولية لتشمل السواحل اللبنانية من الجنوب إلى الشمال بما يشمل المرافئ اللبنانية، والحق في التدقيق في هوية السفن المتجهة إليها، وكذلك نشر فرق مراقبة في المطارات المدنية العاملة أو المقفلة، ونشر أبراج مراقبة ونقاط تدقيق على طول الحدود البرية للبنان مع سوريا”.

حاول الموفد الأميركي تقديم العرض كأنه أمر يغري لبنان، وأن موافقة مبدئية من جانب الحكومة والرئيس بري تفتح الباب أمام مساعي إقناع “إسرائيل” بوقف الحرب فورًا. لكنه خرج من الاجتماعات بانطباعات سلبية، ما أوحى بأنه قد لا يعود إلى لبنان سريعًا إلا في حال حصلت تطورات تفرض عليه تعديل ما يحمل من أفكار. وأُفيد حينها أن الرئيس بري كان شديد الوضوح مع هوكشتاين بالإشارة إلى أن القرار 1701 واضح ولا يحتاج إلى أي تعديل، وأن هناك توافقًا لبنانيًا على تنفيذه.

في جولة المفاوضات الثانية، وبالتوازي مع استمرار الحرب دون أي تقدم اسرائيلي يُذكر، أكد هوكشتاين أن محادثاته مع الرئيسين نبيه بري ونجيب ميقاتي كانت “بناءة”، حيث قال إن “الحل أصبح قريبًا من أيدينا”، و”إننا أمام فرصة حقيقية للوصول إلى نهاية النزاع”.

تلقف لبنان المقترح الأميركي بمرونة وإيجابية، مع إبداء ملاحظات مشروعة ومبررة لضمان آلية تطبيق القرار 1701 بنحو لا يتعارض مع مقتضيات السيادة. ونجح المفاوض اللبناني في إعادة الكرة إلى الملعب الإسرائيلي، وفي عدم إعطاء رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو ذريعة لتحميل الطرف الآخر مسؤولية إحباط مسعى وقف النار.

وإلى ذلك، أوحى تأجيل الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم كلمته التي كانت مقررة في (19 تشرين ثاني 2024)، بأن الحزب في صدد جولة مشاورات حساسة حول الطروحات التي خرجت بها اجتماعات هوكشتاين في بيروت. وفي هذا اليوم، تريث هوكشتاين في الانتقال سريعًا إلى “إسرائيل”، بعد لقاءاته مع بري وميقاتي وقائد الجيش حينها العماد جوزاف عون، لأنه أراد قبل ذلك أن يتبلغ الموقف الدقيق والنهائي من جانب حزب الله، بحسب ما أفادت مصادر اعلامية في وقتها.

الصمود الأسطوري عماد المفاوض اللبناني

وكانت محادثات هوكشتاين قد تزامنت مع استمرار الهجمات الإسرائيلية البرية والجوية على الجنوب وبعض المناطق، وسُجلت محاولات تقدم بري على محاور الخيام وكفرشوبا والناقورة في محاولة لتحقيق ما يمكن استثماره في المفاوضات واستباقًا للموقف الذي ستبلغه تل أبيب للموفد الأميركي عندما سيزورها.

كانت المقاومة في هذا الوقت قد استعادت المبادرة، واستطاعت أن توجه ضربات نوعية في عمق الكيان، مما منح المفاوض اللبناني أوراق قوة عززتها بطولاتُها وصمودها في الميدان.

وفي نهاية المطاف، تم التوصل الى اتفاق لوقف إطلاق النار نص على هدنة تمتد 60 يومًا، تنسحب خلالها القوات الإسرائيلية من الجنوب.

وقد التزمت المقاومة التزامًا كاملاً بعدم خرق الاتفاق، وفي المقابل قامت “إسرائيل” بخرق الاتفاق حوالي 1350 مرة جوًا وبراً وبحراً، سواء بغارات جوية أو توغلات برية أو تدمير البيوت وتجريفها. ورأى حزب الله أنه من الأفضل إفساح المجال أمام الدولة اللبنانية كي تضطلع بمسؤولياتها كاملة تجاه مواطنيها، وأكد التزامه الكامل بعدم خرق الاتفاق ليكشف هشاشة كل الرهانات التي طالما ادعت أن القرارات الدولية تستطيع حماية البلد وأهله. وما رآه العالم بأسره أن العدو قد استباح الأرض ودمر في ظل وقف النار ربما أكثر مما فعله خلال الحرب. وهذا شاهد على صدقية المقاومة ونفاق المجتمع الدولي ووعوده الكاذبة.

بعد مهلة الـ 60 يومًا، عاد الأهالي إلى قراهم سيرًا على الأقدام، واكتمل صمود المقاومة بمشاهد الفخر، ومن بينها مشهد تلك المرأة التي وقفت ثابتة في وجه دبابة للعدو، وتلك التي تحدّت من دون وجل جنوده المدججين بالسلاح. فليخلّد التاريخ أولئك الأبطال بسطور من ذهب.

المصدر: موقع المنار