حاولت “إسرائيل” من خلال حروبها التي شنتها على لبنان وفلسطين أن تُرسخ فكرة أنها تدافع عن أرضها وتاريخها . فقدانها للتاريخ والهوية جعلها تصطنع لنفسها خرافات وروايات حول أن هذه الارض هبة إلهية لها . فصبت جُم غضبها على كل ما يمت بالتاريخ من صلة لعقدة نقصٍ لا علاج لها سوى الاضمحلال.
تعدي على عشرات المواقع الاثرية والتاريخية في غزة ولبنان
ففي عدوانها الاخير على غزة إستهدفت أكثر من 188 موقع اثري ،كالمتاحف والكنائس والمساجد التاريخية وجامعات لها تاريخ عريق (وزارة الآثار والسياحة الفلسطينية) وفي لبنان قامت بتدمير عدد من الرموز التاريخية أو قصفت في محيطها ،مما يهدد سلامة البناء فيما بعد. ومن النقاط التي طالتها غارات العدو المعادية: معبد جوبيتر, منزلاً عثمانياً معروف باسم “مبنى المنشية” ،محيط القلعة الأثرية في بعلبك،”ثكنة غورو”، “مقام بنيامين”،كنيسة دردغيّا كما إستهدفت عدد من شوارع ومباني وأسواق مدينتي صور القديمة والنبطية .
بعضُ الاثار في لبنان تكبر عمر الكيان الاسرائيلي بمئات السنين فمثلاً سوق الاثنين الشعبي الذي يقام في مدنية النبطية يتجاوز عمره ال 500 عام بحسب الذاكرة الشعبية لاهالي المدينة. السوق الذي يعتبر نقطة التقاء لمحافظات لبنان حيث تجتمع بمكوناتها في مشهدٍ يجمع التناقضات :القديم والحديث البسيط والغالي ، الشعبي ويقابله العلامة التجارية .كل هذه الصور تنصهر في مساحة السوق المعروف لا تُعبر إلا عن لبنان، الحضارة والجمال.
سوق النبطية : الذاكرة التي ستعود بلونٍ جديد
تقول في هذا السياق محافظ النبطية الدكتورة هويدا الترك أن العمل جارٍ لاعادة الحياة الاقتصادية الى السوق وفي حديث لموقع المنار الالكتروني أكدت: ” أن هناك حوار جدي اليوم لاعادة السوق لطابعه التراثي والتاريخي ” عبر ورشة تضم البلدية والاتحاد وفعاليات والمجتمع المدني وإمام البلدة الشيخ عبد الحسين صادق”. سيسعى القيمون على وضع تصورٍ يُعيد طابع المدينة التاريخي .
السوق تعرض للتدمير الممنهج خلال العدوان الاسرائيلي الذي بدأ في 23 أيلول 2024 صحيح أنه ليس العدوان الاول على مدينة النبطية ولكن حجم الدمار الذي لحق بالسوق جعل إمكانية إعادة طابعه التاريخي صعبة وهنا يقف علي مزرعاني (مؤرخ مدينة النبطية ) في ذهولٍ أمام ما جنته أيدي العدوان على السوق وعندما سألناه عن إمكانية عودة الطابع التاريخي للمدينة قال بحسرة : ” نعم يمكن للمدينة أن تعود ، ولكنها تعود بطابعٍ جديد لجيلٍ جديد ” ويشرح إبن النبطية بإسهابٍ عن الشوارع والساحات ويردد أسماء العائلات التي عُرفت بصناعاتها ومنتوجاتها : هنا محلات الديماسي التي تعود لفترة الأربعينات وهذه محلات محي الدين للخرضوات التي ورثوها أباً عن جِد. ومن لا يعرف أرناؤوط للفلافل وهنا كان “لوكندا زهرة الجنوب” وهو أول فندق في المدينة . وبعد سرده لاسماء المحال العريقة التي دُمرت يبدأ مزرعاني بالحديث عن تاريخ السوق بنبرة إبن جبل عامل القوية : ” هو ليس مجرد وسط تجاري بل هو رمز وطني فأولى المظاهرات إنطلقت منه عام 1943 ضد الانتداب الفرنسي وفي وسطه حُرق علم المُستعمر الفرنسي وقتها ، ومن ساحاته عام 1983 إنطلقت إنتفاضة عاشوراء ونشأت المقاومة على إثرها ضد الاحتلال الاسرائيلي.” ويؤكد مزرعاني لموقع المنار أن هذا السوق ليس مجرد حجر بل هو نمط حياة يبقى في ذاكرة الجيل الذي عايشه وتنقل بين مفارقه ووقف عند عرباته يختار ألوان وأشكال ، وستعود الحياة إليه بنمطٍ جديد صانعاً ذاكرة جديدة لجيلٍ آخر .هذه بعض الصور التي قام مزرعاني بأرشفتها من خلال عمله كمؤرخ لتاريخ المدينة وسوقها القديم.
منطقة مَرج حاروف تعاود نشاطها الطبيعي
ومن الاسواق الاخرى التي تعرضت لهمجية العدو منطقة مَرج حاروف وهي عبارة عن منطقة صناعية تضم مئات المحال والمؤسسات التي لها علاقة بتصنيع وتصليح السيارات ( دهان ، قطع غيار .. ) يقول محمد عيسى / صاحب شركة لاستيراد قطع غيار السيارات ولديه عدد من المحال في المَرج :” أنهم فتحوا محالهم وأبواب مؤسساتهم وعاودوا العمل بشكل شبه طبيعي.” وأشار عيسى إلى أنهم بإنتظار الفرق الخاصة بمعاينة الاضرار فكل كيلو متر مربع هناك مبنى مُدمر . وبالرغم من ذلك يصف عيسى حركة العمل بالطبيعية وأن الاسعار ما زالت ضمن معدلها التي كانت عليه قبل عدوان أيلول .ولفت إلى أن اليوم هو فرصة لتنظيم “المَرج ” وتشكيل إتحاد يضم كل الصناعيين والتجاريين وهذا ما أكدت عليه محافظ النبطية الدكتورة هويدا التُرك أنهم بإنتظار التقييم الاولي لحجم الاضرار من قبل مجلس الجنوب وعليه يُصار الى تشكيل لجنة خاصة تضم اصحاب المحال التجارية والصناعية للمنطقة لوضع تصور منظم لهم .
محاولات العدو البائسة
قدم لبنان عبر وزارة الثقافة شكوى عاجلة امام المراجع الدولية المختصّة لمحاسبة الكيان الاسرائيلي عن افعاله التي تصيب البشر والحجر والمعالم التراثية والأثرية والتي تعتبر جرائم حرب من المفترض المعاقبة عليها سنداً لاحكام القانون الدولي. فالعدو يحاول طمس معالم المدن ظناً منه أن يمحو تاريخها ولكنه في كُل مرة يفتح لهم بعدوانه حياةً جديدة بلونٍ جديد وذاكرة جديدة. “أما هو سيبقى عدواً للإنسانية ورمزاً للعدوان والقتل الجبان وللحقد المريض”
المصدر: موقع المنار