– ما اسمك؟
– مصطفى أبكر.
– من أين أنت؟
– تشاد.
– وماذا تفعل هنا؟
– جئت لأتعلم القرآن.
ابن الأعوام الثلاثة عشر الذي بدا خائفاً مرعوباً ومربكاً لحظة اعتقاله بتاريخ 12 أيار/ مايو 2003، لم يكن يعلم أن 13 عاماً أخرى تفصل بينه وبين الاعدام المتوحش، الذي لا يميّز بين رجل وطفل، وبين المجرم والضحية. هي قصة الفتى التشادي مصطفى أبكر أحد ضحايا مذبحة الاعدامات مع بداية عام 2016.
أوائل شهر أيار/مايو 2003، قرر إبن بلاد افريقيا الفقيرة أن يمضي مع رفيقيه إلى “بلاد الحرمين”، ليدرسوا القرآن الكريم في مكة المكرمة، هناك حيث رُتِّلت آياته الأولى.
أرسلت عائلة أبكر ابنها إلى السعودية. لم يُعلم شيئاً عن رحلة الفتى. لا يُنقل شيئاً عن شعوره عندما وطأت أقدامه “بلاد الرسالة”. لم يصلنا كل ما اعتراه من مشاعر في أيامه الأولى… لم يصلنا من أبكر إلا ذلك الخوف والقلق الذي تحدثت به عيناه، وعيون الأطفال لا تعرف الكذب، تنقل الخوف والقلق تماماً كما تنقل الحزن والفرح. لقد كانت صورة أبكر التي تناقلتها وسائل الاعلام السعودية تختزن الخوف والرعب من مجهول لم يتوقعه.
عام 2003، هزّت ثلاث تفجيرات العاصمة الرياض… بعد أكثر من شهر على وقوعها بدأت حملة اعتقالات واسعة، وقع فيها أبكر الذي كان حديث الوصول إلى مكة. داهمت القوات السعودية مقر إقامة الدورة القرآنية، واعتقلت اثنين كان ثالثهم مصطفى أبكر.
في أحد الوثائقيات الذي عرضته قناة العربية، تحدث ضابط سعودي من قوات الطوارئ الخاصة عن العملية التي جرى فيها اعتقال أبكر: “كانوا صغار السن، لدرجة أن بعض الأشخاص ممن قبضنا عليهم كان يتوقع أنه بمجرد أننا قبضنا عليه فإنه سيذهب إلى أهله، لم يكن يفهم ماذا يحدث”.
كان الضابط السعودي يصف حال أبكر. الوضع المرعب الذي عاشه ابن تشاد لم يجعله يفكر إلا بالعودة إلى أهله، لم يكن واعٍ بشكل كافٍ ليفهم ما يجري حوله، لم يتوقع ربما أن لكل شيء في هذه الحياة ثمن، ما نقرره له ثمن وحتى ما يجري خارج إرادتنا له ثمن أيضاً.. وقد دفع أبكر ثمن شغفه بتعلم القرآن الكريم، وثمن أحداث لم يكن له القرار في وقوعها من عدمه.
في 14 تشرين الأول/ اكتوبر 2014 ، وبعد 11 عاماً من اعتقاله، خضع فيها مصطفى أبكر لمحاكمة سرية ومنع خلالها من التواصل مع أي محامٍ، لتنتهي بصدور حكم الإعدام. خسر أبكر كل أمل له بالعودة إلى عائلته، لم تنفعه ذكريات وطنه التي من المؤكد أنها رافقته عاشها في سنوات اعتقاله كلها لتشعل كل أمل له بالعودة.
لم يعد مصطفى أبكر إلى أهله. وفي صبيحة الثاني من كانون الثاني/يناير 2016 أُعلن عن تنفيذ الإعدام.
أعدمت السلطة السعودية أبكر الذي وإذا ثبت تورطه قاصراً، فإنه لم يمنح فرصة لتصحيح حياته أو تأهيله من خلال دمجه في المجتمع، ولم تقفل المدارس الدينية التي خرجت منها المملكة آلاف التكفيريين ودعاة الكراهية والقتل.
بعد ظهوره السابق طفلاً على شاشة التلفاز، بدأت بعض المواقع الإلكترونية تتداول صورة أخرى له. بدا أن الطفل قد صار شابّاً، وتأكد أن الشاب بات معدوماً وقبل أن يتعلم القرآن ربما!
ليس معلوماً كيف تلقت عائلة أبكر نبأ مقتل ابنها. المعلوم أن العائلة ودعت ابنها بأعوامه الثلاثة عشر، فخرج ولم يعد. قبع مصطفى أبكر في السجن 13 عاماً، كفترة موازية لسنوات عمره التي قضاها حراً.
صبيحة اليوم الأول من عام 2016، بدأت مذبحة الإعدامات ولم تنتهِ قبل حلول المغرب، وفق ما نقلت المصادر السعودية يومها. هكذا اختارت المملكة أن تستهل عام 2016 بإراقة الدم. لم يكن القاصر مصطفى أبكر ضحيتها الوحيد، علي آل ربح كان ضحية أخرى.
عن طريق شاشات التلفزة السعودية ومن مواقع التواصل الاجتماعي. وقع الخبر كالصاعقة، ساعات قليلة احتاجتها الوالدة قبل أن تشعر بطمأنينة أن ولدها قضى شهيداً. ثلاث مرات زارها ابنها في المنام، في كل مرة كانت ترى رأس ابنها مفصولاً عن جسده.
من على مقعد الدراسة، وأمام زملائه والمدرسين، اقتادت قوات السلطة علي آل ربح في شباط/فبراير ٢٠١٢. كما غيره اعتقل علي آل الربح من دون مذكرة توقيف، تعرّض للتعذيب الذي غير بعضاً من ملامحه. قبل أن يخضع لمحاكمة سرية في المحكمة الجزائية المتخصصة، ويُحكم عليه بالإعدام. هذا ما آلت إليه مشاركة الربح (١٧ عاماً) في تظاهرات سلمية شهدتها المنطقة الشرقية أواخر العام ٢٠١١.
وجهت للربح تهم “تكوين مجموعة ارهابية، واستهداف رجال الأمن، والتحريض على التظاهر وحيازة مسدس مع ذخيرة”، وفق ما نقلت صحيفة “الشرق الأوسط” يومها… إلا أن ما يؤكده فريق الدفاع لموقع المنار أن أياً التهم لم تُقرن بدليل. من التقى بعلي الربح لا يمكنه تصديق رواية السلطة، وفق كلام المحامي. الولد الذي الهادئ قليل الكلام لا يمكن أن يكون قد حمل سلاح، كما أن الاعتداءات التي طالت رجال الأمن في المملكة وأسقطت بعض العناصر قتلى لم تُرتكب الا بعد اعتقال الربح، يضيف المحامي.
“قال إنه لم يحمل سلاحاً في حياته ولكنه أقر بمشاركته في التظاهرات، واقتنعت بكلامه ١٠٠٪”، تابع محامي علي آل ربح.
في لقائه الأخير بعائلته في سجن الحاير بالرياض، اشتكى علي من سوء المعاملة ومن ايداعه في زنزانة انفرادية. قال لذويه انه لا يملك ملابساً غير تلك التي كان يرتديها، وأن ما يقدم له من طعام كان سيئاً، وأنه محروم حتى من الحصول على قرآن كريم. هذا ما سمعه أهله منه في زيارته الأخيرة.
يوم الثلاثاء 29 كانون الأول/ ديسمبر كانت العائلة بانتظار الاتصال الأسبوعي من علي. مُنع الولد من محادثة عائلته، فكان الأمل أن يتم تأجيل المحادثة للأسبوع التالي، إلا أن موعده مع سيف الإعدام قطع كل الآمال.
بعد جريمة قتله، كتبت والدة علي عن ابنها: “عند توجهي لزيارة الحسين في عرفة في العام الماضي(2015) ، قال لي بأنه يريد خيوطاً حسينية خضراء، وفي طريق العودة… بين النوم و اليقظة رأيت ذلك الخيط الأخضر مربوطاً حول عنقه، رأيته واقفاً بشموخ وعزة وكبرياء واقفاً بلا خوف وبلا وجل لم ينحنِ أبداً، رأيت رأسه يقطع بالسيف ويسقط أرضاً وجسده في حال ثبات لم ينحنِ ولم يسقط”.
لم تقُص أم علي آل الربح رؤياها على أحد قبل تنفيذ الإعدام، خوفاً من أن تنقلب حقيقة. فُصل رأس علي عن جسده، هكذا قطع سيف الإعدام كل أمل بعودة الولد إلى حضن عائلته..
يتكرر المشهد، يخرجون من بيوتهم أطفالاً، فيذهبون بلا عودة، هكذا تصاغ النهايات في المملكة السعودية، لا يُميز سيف الإعدام هناك من رجل أو قاصر، لا يميز بين مصطفى أبكر “السني” أو علي آل ربح “الشيعي”… الكل مهدور الدم متى ما رفعت السلطة سيفها. هكذا يطال الاجرام الرسمي الكل في المملكة.