“كل من التقينا بهم من منظمات وسفراء أجانب أكدوا لنا أن الإعدام لن ينفذ… لكنه حتماً سينفذ”.
في استضافة لشخصية قريبة من عائلة النمر، على “ريوق” (فطور) بحراني في أحد صباحات بيروت الجميلة، قبل شهرين من صباح 2 كانون الثاني/يناير 2016، قال لي الضيف: قناعة آل النمر ثابثة أن بين شيخهم وسيف السلطة الأملح مسافة وقت. القرار محسوم. وما أبلغتهم به السفارات الأوروبية والمنظمات الحقوقية عن تأكيدات تلقتها من السلطة السعودية بأن الإعدام لن ينفذ، لم يكن ليبدل هذا اليقين. كنت أسمع ذلك بذهول.
لماذا كانت قناعة آل النمر ثابتة؟ لماذا لم تتمكن تطمينات السفارات الأوروبية من تخرق ثقتهم بأن جريمة القتل واقعة لا محال… أي منطلقات باتت تحكم ذهنية العائلية، أي خلفيات يبني عليها هؤلاء ليجزموا أن بين شيخهم الأكبر والشهادة مسافة وقت فقط؟
كالعديد من العشائر والعوائل، يمتد نسب آل النمر إلى القحطانيين العرب في بلاد نجد إلى زمن الجاهلية، يدوّن المؤرخون أن العائلة كانت تدين بالمسيحية في تلك الأيام، وأنها من أبرز من شارك في معارك البسوس. دخلت الإسلام، مع دخوله إلى نجد ومحيطها. وعاصرت العائلة المتواجدة اليوم في العوامية والأحساء ومناطق أخرى المحطات التي مرت على بلاد نجد ومحيطها. وبدون مبالغة فإن العودة إلى نسب العائلة التي خرج من رحمها علماء معروفون، أسهل من العودة إلى نسب آل سعود متزعمي بلاد نجد والحجاز. اذ يختلف السعوديون فيما بينهم على نسب العائلة الحاكمة، البعض يذهب إلى اتصالهم بقبيلة “عنزة” وآخرون يتحدثون عن صلتهم ببني حنيفة، ويفند البعض على رأسهم المعارض السعودي ناصر السعيدي نسب آل سعود المتصل ببني القينقاع يهود المدينة المنورة قبل أن يطردوا منها بعد حربهم ضد الرسول (ص)… وهو كلام دفع السعيدي حياته ثمناً له.
خبِر آل النمر حال بلادهم، عاشوا حُلوَها الممحي من كتب تاريخ مملكة آل سعود، وعاشوا مرارات الغزو التي سطرتها كتب التاريخ نفسها كفتوحات وبطولات. عاشوا كل ما شهدته تلك البلاد من قتل وسلب ونهب، وامتحنوا ثقافة الإلغاء والإقصاء، وقد تشربوا مرارات منطق “الغلبة”… كل ذلك جعلهم يقرؤون مسبقاً خطوات السيف المسلط على الرقاب في بلادهم. يعلمون أن القتل والعنف الذي استبعدت السفارات والمنظمات الأجنبية ارتكابهما، هو خبز السلطة اليومي، وهو وقود استمرار غلبتها.
في تنظيره للعنف، يقول عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر (1864- 1920) إن جوهر السلطة هو ممارسة العنف، وأن الدولة هي من يحتكر وسائله، ولكن فيبر حدد معالم هذه الدولة. فهي التي تستند إلى عقد اجتماعي يتنازل بموجبه الشعب عن حق استعمال العنف على أساس نظام سياسي حديث يتميز بتقسيم السلطات وممارسات الرقابة من قبل السلطات المنفصلة على بعضها البعض.
استبق عنف “آل سعود” ماكس فيبر، لا عقد اجتماعي ولا دولة مؤسسات. لم تستند في تحصيل “شرعية” ممارستها للعنف إلى عقد اجتماعي، ولا إلى نص دستوري… استندت إلى نظام عرفي رسخه التوحش، نظام لا يعرف إلا الطاعة. ولم تحتكر السلطة السعودية وسائل العنف فقط، بل كانت العنف نفسه، لم تصادره فقط، صادرت كل ما فيه وكل ما يمكن أن يدور حوله.
لا يعرف نظام المملكة السعودية إلا الطاعة، كل خارج عن دائرة الطاعة مهدور الدم. الوهابية فُصّلت أساساً على مقاس سلطة “آل سعود”، وسلطت سيوفها على رقاب كل من اختار أن يكون خارج دائرة الطاعة. منذ تحالف المحمدين (ابن سعود وابن عبدالوهاب) الذي أدى إلى ظهور “الدولة السعودية الأولى”، كان محمد بن عبدالوهاب (1703-1791) يوجه الرسائل داعياً القبائل لأن تخضع لحكم ابن سعود. على هذا الأساس صاغ ابن عبدالوهاب حدوداً لدائرة الأمة السعودية، ربطها بفهمه الكارثي المحدود للإسلام. وبموجب نظام الطاعة والإذعان قتل جيشه عبدالله المويس وأحرق بساتينه ونخله. لم يكن المويس “رافضياً” بالمناسبة… بل كان من كبار علماء نجد، أخرجه ابن عبدالوهاب من دائرة الإسلام، كفره وأباح قتله… هكذا شكلت الوهابية ديانة حرب، تُعمِلُ سيوفها في رقاب كل من لا يخضع وكل من لا يذعن… لم يكن المويس أول ضحايا سيف الوهابية “الأملح”، ولن يكون الشيخ النمر آخرهم.
“نعم قلت وأقول: لا نؤيد آل سعود، ولماذا نؤيدهم؟ على قتل أبنائنا أم على اعتقال شبابنا أم على الظلم والجور الواقع من قبلهم علينا، فنحن لم ننتخبهم ولم نخترهم حكاماً علينا، ولم يجعلهم الله كذلك حتى نؤيدهم، وإنما حكمونا بحكم الغلبة”، الكلام الذي جهر به الشيخ النمر لم في مجلس خاص أو على منبر العوامية، قيل هذا أمام المحكمة التي شكلتها ورسمت مسارها السلطة السعودية.
بصراحة وجرأة قال الشيخ كلمته في السلطة، في ممارساتها، في إقصائها للشعب، وفي “ولي الأمر”. أمام هيئة القضاء المُعينة من “آل سعود” قال الشيخ في مرافعته إنه خارج دائرة الطاعة، وأن الدولة كما حياته ليست أهم من كرامته.
عدد المدعي العام السعودي التهم الموجهة ضد الشيخ النمر، كانت إحداها: “نقضه البيعة المنعقدة له في ذمته” فردّ النمر: “هذه الدعوة سالبة بانتفاء موضوعها؛ لأنني لم أبايع من الأصل ولم تتحقق مني بيعة حتى يقال إنني نقضت البيعة”.
وأضاف في مرافعته أيضاً: “أقر أنا المدعو نمر باقر أمين النمر… أن جميع الخطب والبيانات التي صدرت عني كانت بمحض إرادتي وعن قناعة تامة مني وأنني لست نادم على ذلك… أقر أن حكومة هذه البلاد لا تمارس دورها الرعوي وإنما تكرس دورها في التسلط على مواطنيها بشكل عام… أقر أنه لا سمع ولا طاعة لمن يسلب حريتي ويسلب أمني… أقر أن الدولة ليست أهم من كرامتي بل أن حياتي أيضاً ليست أهم من كرامتي.. أقر بأنني لن أتجاوب مع أي سؤال لا أرغب الإجابة عليه وأن ذلك نابع من معتقدي الشرعي ومن اعتدادي بنفسي وقناعتي وأن الخيار يعود لي في الإجابة على ما أرغب أن أجيب عليه”.
كسر الشيخ النمر فكرة الطاعة، وهشّم كل النفوذ المعزز بالعنف. كان زئير كلماته أقوى من أزيز رصاص العنف. بدا صوته الهادر خروجاً على عرف كرسه نظام الطاعة، وشرعنته هيئة البيعة، وسنته شريعة محمد بن عبدالوهاب.
في مملكة “ولي الأمر” لا يعد الخروج عن الدين كفراً، الكافر هناك هو المُخِل بنظام الطاعة، أكان نمر باقر النمر أو عبدالله الحامد أو وليد أبوالخير أو حتى الشيخ حسين الراضي. كل صوت معارض داخل منظومة الطاعة تراه السلطة السعودية رصاصاً يخرقها.
بعد عام تطويه المملكة على اعدام الشيخ النمر بات باستطاعتي فهم كيف أن عائلة الشيخ لم تمنّيهم كل التطمينات، بات بمقدوري أن أتفهم كيف كانت الشخصية المقربة من الشيخ الشهيد أن يتحدث عن الإعدام كأمر واقع لا محال… خبر آل النمر عقلية آل سعود، يجيدون قراءة ما بين سطور كلمات السلطة وأقلام كتّابها. كانوا يدرك أن تطمينات الدبلوماسية الغربية لا تعرف النظام العرفي الذي يشتغل في هذا النظام. يتحدث الغربيون بمنطق السياسة، ويحكم النظام السعودي منطق الغلبة.