أبى جمع ممن ينتسب إلى الاعلاميين، إلا أن يكون رأس حربة، ولو ترك الساحة وأخلاها لكان أنفع وأجدى.. غير أن النفس الأمارة بالسوء هي نفسها، تظهر عند كل نازلة أو موقف.. وفي العدوان على لبنان تمايزت الصفوف، وانبرى العديد من الإعلاميين ليقدم خدمات بالمجان لعدوهم، الذي يوجه لهم الثناء على أدوارهم، التي هي بالمناسبة كالزبد الذي يذهب جفاء.
ولكن إن لم يكن لديهم أخلاق مهنة الاعلام، فعلى الأقل يتحلوا بأخلاق العرب، بأنهم وابن عمهم على عدوهم، إن كان بينهم وبينه عداوة أو خصام.. فعند الحروب توضع الخلافات البينية جانباً، ليتفرغ المجتمع والوطن إلى مقاتلة الأعداء.. أليس هذا في عرف الأولين وأخلاقهم في التعايش؟
حدثنا العرب عن التكاتف والتآزر في قتال الباغي، ولكنهم وصفوا لنا أيضاً ظلم ذوي القربى، ويستحضرنا قول الشاعر طرفة بن العبد في قصيدته المعلقة: وَظُلمُ ذَوي القُربى أَشَدُّ مَضاضَةً // عَلى المَرءِ مِن وَقعِ الحُسامِ المُهَنَّدِ
والحسام المهند واضح جلي، وهو الجيش الإسرائيلي الذي يمعن في عدوانه غير الأخلاقي، فللحرب أخلاق، كما للخصام.. أما القربى فهم الشركاء في الوطن، الذين لا يعتبرون أنفسهم شركاء لبيئة المقاومة ولا لجمهورها، وهم قد فجروا بالخصومة، إلى حد العجب.
فتارة نجد بعض الأشخاص يدعون العدو في العلن إلى استهداف سيارات الاسعاف، واعتبار المسعفين مقاتلين، في جهل لأبسط القوانين الدولية، وحتى الأخلاقية. فمن أخلاق الحرب أن لا تقتل عسكرياً أعزلاً، فإذا كان من يدعو إلى قتل المسعفين لا يعتبر نفسه “ذو وجه عربي”، فليتعلم ولو قليلاً من أخلاق الفروسية القديمة في أوروبا. لكن الثقافة الغالبة هنا هو التحريض على القتل لمجرد القتل، في تجاهل لأبسط القواعد الإنسانية.
اذا ما تابعنا مسلسل التحريض، نراه ينتقل من مرحلة إلى أخرى. فوصل إلى دعوة لاستهداف مراكز استقبال النازحين، على اعتبار أن فيها مسلحين، في إشارة تعكس مستوى الإنحطاط الإعلامي. وما يزيد الطين بلة، هو تجاهل المواقف الرسمية من ساسة الدولة، إلا فيما ندر، لدعوة قتل علينة من قبل مؤسسة اعلامية يتوقع أنها ملتزمة بالقوانين، فأي قوانين تراقب هكذا مؤسسات.
وما ظهر على العلن من قبل مؤسسات إعلامية وصحافيين مفترضين، هو عينة صغيرة جداً، مما يتم تناوله في البرامج الحوارية، والتي تنضح بمعضمها عن دعوات للقتل، والتحريض على بيئة المقاومة، وهم المدنيون الذين تبنوا خيارات سياسية، تحمي لبنان من أعداء الوطن، وتحمي الوطن بتجاهلهم لهؤلاء، رغم مستوى الاستفزاز الذي يتخطى في كثير من الأحيان قدرات البشر. لكن لبيئة المقاومة صبرها غير المحدود، لأن أهدافها كبيرة، وليس كما البعض، مقعد نيابي هنا، ومنصب وزاري هناك، ووظيفة حكومية هنا وهناك.
هذا الخطاب الاعلامي، أعطى الغطاء لمن يعتبر نفسه ناشطاً على مواقع التواصل الإجتماعي، فنرى البعض يدعو العدو الاسرائيلي إلى قصف قرية، لأنها أصحابها “شيعة”، والبعض يسمي مناطق بعينها، زاعماً أن هناك مخازن صواريخ لحزب الله، في حين أن العشرات من هؤلاء على هامش القضايا الوطنية، يشاركون في حوارات على منصات التواصل، ينظمها المتحدث بإسم الجيش الاسرائيلي، في جريمة واضحة يعاقب عليها القانون اللبناني.
تحرك العديد من المحامين في لبنان ضد هذا التحريض، فتقدم أحد المحامين باخبار امام النيابة العامة التمييزية ضد قناة “MTV”، بتهمة التحريض على القتل في زمن الحرب واثارت النعرات الطائفية وتهديد السلم الاهلي. في حين أن القضاء أصدر مذكرة توقيف بحق “مريم مجدولين اللحام”، بعد تحريضها على مسعفي الهيئة الصحيّة الإسلاميّة بتهمة العمالة وتحريض العدو على استهداف المدنيين.
ويعتمد خطاب التحريض على سلسلة من الكذب والسذاجة الإعلامية، ونستحضر هنا الخطاب الذي انتشر في لبنان بعد تفجير مرفأ بيروت، وكيف زعم أحد سائقي الشاحنات أنه نقل “نيترات الأمونيوم مرتين إلى جنوب لبنان”، وتحول هذا الشخص والمؤسسة الإعلامية التي استضافته إلى مهزلة لدى الشعب اللبناني. ويعكس هذا الخطاب، مدى الاستخفاف بعقول متابعي وجمهور هذه القنوات، وليس أبداً بجمهور بيئة المقاومة.
ونعود إلى أدبيات الخصومة وأخلاقها، فالفجور في الخصومة والذي تمارسمه مؤسسات اعلامية وناشطون وإعلاميون، هي صفة من لا ولاء له، فينسون المعروف ويتنكرون للجميل.
نختم بما ختم شاعرنا طرفة بن العبد قصيدته، وهنا بيت القصيد:
سَتُبدي لَكَ الأَيّامُ ما كُنتَ جاهِلاً // وَيَأتيكَ بِالأَخبارِ مَن لَم تُزَوِّدِ
وَيَأتيكَ بِالأَخبارِ مَن لَم تَبِع لَهُ // بَتاتاً وَلَم تَضرِب لَهُ وَقتَ مَوعِدِ
المصدر: المنار