البناء المعنوي والمادي للحياة
الشيخ دعموش: المسار المتاح لإنجاز الاستحقاق الرئاسي هو الحوار ومنطق الفرض والتحدي والعناد لا يفيد
نص الخطبة
يقول الله تعالى وهو يحدثنا عن كيفية خلق السماوات والأرض: [أأنْتُم أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَآءُ بَناهَا* رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا* وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا* وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا* أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَها وَمَرْعَاهَا* وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا* مَتَاعاً لَّكُمْ وَلأنْعَامِكُمْ]. النازعات/ 27 ـ 33
معنى دحو الأرض(والارض بعد ذلك دحاها): أي بسطها وهيئها لتصبح صالحة للسكن وللعيش والحياة فالارض كانت في لبداية تغمرها مياه الامطار التي انهمرت عليها بغزارة مدة طويلة ثم استقرت تلك المياه تدريجيا في منخفضات الارض فشكلت البحار والمحيطات وظهرت اليابسة على اطرافها وتوسعت تدريجيا حتى وصلت الى ما هي عليه الآن وبذلك اصبحت قابلة للسكن والحياة، فالله سبحانه وتعالى خلق الأرض وهيئها وأودع فيها ما يحتاجه الإنسان من موارد لتكون صالحة لحياته وحياة بقية المخلوقات فيها، وهذه نعمة تستحق الشكر..
ويوم دحو الأرض هو يوم الخامس والعشرين من شهر ذي القعدة ، وهو يوم مبارك ويُستحب فيه الصيام ، وروي ان ان صيامه يعدل صيام ستين شهرا، وهو كفارة لذنوب سبعين سنة وهو يوم انتشرت فيه رحمة الله سبحانه وتعالى، فعَنْ الإمام مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ الكاظم ( عليه السَّلام ) أَنَّهُ قَالَ : ” فِي خَمْسٍ وَ عِشْرِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ أَنْزَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ ، فَمَنْ صَامَ ذَلِكَ الْيَوْمَ كَانَ كَفَّارَةَ سَبْعِينَ سَنَةً ، وَ هُوَ أَوَّلُ يَوْمٍ أُنْزِلَ فِيهِ الرَّحْمَةُ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى آدَمَ (عليه السَّلام).
والله سبحانه الذي خلق الأرض ثم بسطها ومدها لتكون صالحة للسكن والحياة أودع فيها وفي الكون الكثير من الثروات والخيرات والإمكانات والموارد الطبيعية وغير الطبيعية، ووضعها تحت تصرف الإنسان وسخرها في خدمته وفي نفعه ومصلحته.
وقد تحدثت عشرات الآيات القرآنية عن تسخير الله لكل ما في السموات والأرض والكون للإنسان، وعن أن الله خلق هذا الوجود بكل ما فيه من خيرات من أجل الإنسان.
ولذلك جاء التعبير في الآيات تارة بلفظ (سخر لكم) وتارة أخرى بلفظ (خلق لكم).
قال تعالى: [أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ ٱللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُۥ ظَٰهِرَةً وَبَاطِنَةً]. لقمان/ 20.
ويقول سبحانه في آية أخرى: [للَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِىَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ* وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ* وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ]. ابراهيم/ 33.
ويقول في آية ثالثة: [هُوَ ٱلَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى ٱلْأَرْضِ جَمِيعًا]. البقرة/ 296.
خلق الله لكم ما في الأرض جميعاً من أجل أن تستفيدوا منه وتستثمروه وتسخروه لمصلحتكم.
والله سبحانه وتعالى خلق هذه الأرض من أجلكم, وأودع فيها كل هذه الثروات والخيرات والإمكانات والطاقات والموارد والنعم من أجل استغلالها واستثمارها في إعمار الأرض, فالمهمة الاساسية للإنسان في هذه الحياة هي مهمة إعمار الأرض واستثمار الخيرات التي أودعها الله فيها وفي الكون.
يقول تعالى: [هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب]. هود/61.
ومعنى (فاستعمركم فيها) أي طلب منكم عمارة الأرض, أي أن تعمروها وتبنوها… وإعمار الأرض يكون بنحوين: بنحو معنوي وبنحو مادي.
فالإعمار المعنوي والروحي للأرض: هو أن يعمرها الإنسان بالإيمان والمبادىء والقيم الإلهية والأخلاق وصنع المعروف والإحسان للآخرين والعمل على وحدتهم واستقامتهم وتحقيق مصالحهم.
وهذه المهمة هي مهمة الجميع الكبار والصغار الرجال والنساء العلماء والنخب ووالناس العاديون الجميع مسؤول عن هداية الناس وايمانهم وصلاحهم واستقامتهم واخلاقهم والتزامهم بالقيم ولذلك يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ). التحريم:6
والإعمار المادي: بأن يعمرها بالزراعة والتجارة والصناعة والتنمية والإبداع والإنتاج والقيام بكل ما ينفع الناس وبكل ما يؤدي الى رقيهم وتقدمهم على كل صعيد.
فالله سبحانه لم يعمر الأرض للإنسان، وإنما فوضه هو أن يعمرها وأن يستغل ما فيها من ثروات وإمكانات من أجل إعمارها.
وهذا تماماً كما لو أن شخصاً أراد أن يبني بناءاً فإنه يأتي بمواد البناء ويطلب من البناء أن يبني له فهو يقول له: هذه الأرض وهذه مواد البناء وهذه أدوات ووسائل التعمير وهذا كل ما تحتاجه من خرائط ومعدات وما عليك إلا أن تقوم ببناء العمارة أو البناية أو المشروع ..
وهذا تماماً هو ما فعله الله الخالق العظيم في الأرض، فهو سبحانه وتعالى خلق الإنسان, وخلق له هذا الكون والأرض, وبسطها وهيئها وأودع فيها خيرات وثروات، وجعلها صالحة للحياة, ثم قال للإنسان أيها الإنسان, اعمر هذه الأرض بما أودعت لك فيها من ثروات وخيرات..
وعندما طلب الله سبحانه من الإنسان إعمار الأرض لم يتركه بلا مقومات بل وفر له أمرين:
الأول: الإمكانات والوسائل التي يستطيع من خلالها القيام بمهمة إعمار الأرض.
والثاني: العقل الذي يستطيع من خلاله الاستفادة من هذه الإمكانات والوسائل.
واليوم المجتمعات الإسلامية والبلدان الإسلامية مهمتها الأساسية هي القيام بإعمار الأرض والاستفادة من مواردها وثرواتها في إطار المبادئ والقيم والأحكام التي شرعها الله سبحانه وتعالى.
من المؤسف ان المجتمعات والبلدان العربية الإسلامية لا تستفيد بالشكل المناسب من الموارد والطاقات الهائلة والكبيرة التي تمتلكها، بينما نجد الامم الأخرى تستغل كل الثروات الموجودة لديها, ولا تكتفي بذلك بل تنهب ثروات العالم العربي والإسلامي وثروات العالم الثالث، وتأخذ منه المواد الخام ثم تصنعها وتبيعها لنا بأضعاف مضاعفة.
صحيح ان بعض الدول العربية والاسلامية تستفيد من ثرواتها وطاقاتها وتجني أموالاً طائلة من النفط والغاز والمعادن، لكنها وبدل من أن تصرف هذه الأموال على شعوبها التي تعاني من الفقر والبطالة والتخلف تصرف مئات مليارات الدولارات على التسلح والحروب، وتمنح الدول المستكبرة كاميركا الكثير من هذه الاموال لتحمي وجودها وعروش ملوكها وأمرائها، فتقوم أمريكا باستثمار هذه الأموال الطائلة في معالجة أزماتها الداخلية وتعزيز اقتصادها وتطوير بناها التحتية وايجاد فرص عمل لشعبها ،في الوقت الذي تبقى معظم شعوبنا تعاني تحت وطأت الفقر والبطالة وتردي الاوضاع الاقتصادية والمعيشية.
اليوم التنمية هي مقياس ومعيار أداء ونجاح الحكومات والدول والأنظمة في العالم, ولذلك ورد عن علي (ع): فضيلة السلطان عمارة البلدان.
المعيار في نجاح وصلاح الحكومات هو بمقدار ما تحققه من إنجازات على صعيد التنمية والإعمار وتحقيق الرفاهية لشعوبها.. فإذا استطاعت أن تحقق تقدماً علمياً واقتصادياً وتنموياً وتكنولوجياً واستفادت من مواردها وثرواتها فهي ناجحة وصالحة أما إذا ضيعت أو أهدرت طاقاتها وثرواتها فهي فاسدة ويحكمها فاسدون؟! .
إذا استطاعت الحكومات والدول أن تستثمر وتستغل الموارد الطبيعية وغير الطبيعية الموجودة فيها لمصلحة شعوبها ورقيها وتقدمها فهي صالحة وفاضلة ويمكن الرهان عليها في تحقيق الإنجازات وإلا فلا.
في لبنان توجد ثروة نفطية علينا الاستفادة منها باسرع وقت ممكن في تنمية البلد ومعالجة ازماته، كذلك لبنان يملك ثروة مائية كبيرة ايضا ولكنها تذهب هدرا .. فالناس تدفع أموالاً بشكل متكرر لشراء الماء في الوقت الذي تذهب فيه الثروة المائية هدرا في البحر ، وهذا يعدَ فشلاً ذريعاً للحكومات والعهود المتعاقبة في لبنان، ووجهاً من وجوه الفساد الذي يضرب الدولة ومؤسساتها.
اليوم لا يمكن الخروج من الازمات اذا لم يعتمد اللبنانيون على انفسهم ولم يخرج البعض من دائرة الكيد السياسي والمصالح الخاصة والضيقة الى افق المصلحة الوطنية ومصالح الناس .
اليوم في استحقاق رئاسة الجمهورية البعض يتعاطى من منطلق كيدي وليس من موقع مصلحة البلد والتقاطع الذي يتم الحديث عنه هو التقاء مرحلي وما بعده ليس كما قبله.
نحن لا نفرض مرشح تحد ولا نريد مواجهة احد، ولكن من حقنا ان ندعم ترشيح من نرى فيه الصفات والمؤهلات المطلوبة ولذلك نحن متمسكون بدعم ترشيح الوزير فرنجية وستصوت له كتلة الوفاء للمقاومة في الجلسة القادمة، لانه مرشح طبيعي ومعروف بوطنيته وتسامحه وإيمانه بالحوار والعيش المشترك ووحدة اللبنانيين ورفضه للفتنة وانفتاحه على الجميع في الداخل والخارج ولديه قدرة كبيرة على معالجة ومتابعة ملفات اساسية وحساسة كملف النزوح السوري وملف النفط والغاز، وهو مطروح للتوافق ولم يطرح لتحدي أحد أو للمواجهة مع أحد كما يفعل الفريق الآخر التي التقت مصالحه المتضاربة على مرشح للتحدي والمواجهة.
لقد قلنا ولا زلنا نقول ان المسار المتاح لانجاز الاستحقاق الرئاسي هو الحوار والتفاهم وليس هناك من حل سوى بالحوار والتوافق، اما منطق الفرض والتحدي والعناد فلا يفيد ولا يوصل الى حل بل يعمق الأزمة ويطيل أمد الفراغ ويدفع البلد نحو الفوضى.