تحرير لبنان من الاحتلال الإسرائيلي، لا يزال عيداً حاضراً في أذهان اللبنانيين بقوة، رغم مرور 23 عاماً، ورغم تردي الأوضاع المعيشية، وتغيّر الأحوال والمناخات السياسية والاقتصادية، ورغم جحيم الفوضى السائدة التي أنهكت المواطن اللبناني على جميع الصعد المادية والتعليمية والصحية وحتى الأمنية.
اللافت في الأمر أن الجيل الذي ولد في العام 2000، بلغ الآن من العمر 23 سنة، وهو جيل لم يعش مرحلة الاحتلال والعذاب والاعتقال وظلم الإسرائيلي، ومع ذلك نرى هؤلاء الشبان، وهم يحتفلون بهذا التحرير بعزة وفخر وإباء، ويعتبرونه العيد الأكثر تعبيراً عن الانتصار التاريخي، الذي حققته المقاومة اللبنانية، وتمكنت من قهر الجيش الذي لا يقهر وأجبرته على الانسحاب من لبنان وبشكل مذلّ.
بعد 23 عاماً على تحرير لبنان، لم تزل أجيال المقاومة اللبنانية الشابة، تقلّب في صفحات التاريخ المشرف من حقبة وظروف التحرير، وذلك للتعلّم من هذا الحدث التاريخي الذي تحقق على يد مجموعة من فتية في الجنوب اللبناني، قرروا سلوك درب التضحية بالأرواح والدماء، وتحمّل قساوة الاعتقال التعسفي، ومرارة التعذيب في المعتقلات الإسرائيلية حتى الاستشهاد، ورغم ذلك تمكنوا من تحقيق الحدث العربي الأول من نوعه وهو طرد المحتل الإسرائيلي من أرض لبنان بالقوة.
تحرير لبنان في العام 2000، حدث تاريخي بكل ما تعنيه الكلمة من معان سامية، لأنه جاء نتيجة وجود إرادة وبفعل المقاومة، وهو ما عجزت عنه أنظمة عربية تمتلك جيوشاً نظامية وعلى مدى عقود من الزمن، على الرغم من مكابرة وإنكار البعض، وتآمر البعض الآخر في الداخل اللبناني، إضافة إلى محاولات أميركية دؤوبة وبشراكة دول غربية وعربية، للانقضاض والاقتصاص من المقاومة اللبنانية، لأنها تجرأت على كسر هيبة العدو الإسرائيلي.
ما حدث فجر 24 أيار 2000، قَلَبَ موازين المنطقة ومعادلاتها، وغيّر سياساتها، كاشفاً اعتوار معظم الأنظمة العربية، بعد سقوط جدران الوهم والخوف في المنطقة، وأعاد إلى لبنان الضعيف قوته، بعدما كان البعض يتغنى بمقولة لبنان قوي في ضعفه، ومنح الشعب العربي الكرامة والعزة، خصوصاً مع انبلاج شعلة المقاومة التي ستبقى في ذاكرة الأجيال، ليس في لبنان فحسب، بل في ذاكرة أجيال الوطن العربي، ولاسيما أجيال فلسطين.
لا غلو بالقول إن تحرير لبنان من الاحتلال الإسرائيلي في العام 2000 هو انتصار تاريخي للبنان، وللشعب العربي المناهض لكل أشكال الاحتلال الإسرائيلي، وفي مقدمها احتلال فلسطين، ولأن هذا الانتصار كسر شوكة أقوى جيوش المنطقة برمتها تسليحاً وعدة وعتاد وقوة، والتاريخ سجّل هذا التحرير بحروف من ذهب، لأنه تحرير لم يأت بفعل الخنوع والمفاوضات العقيمة والمذلة مع العدو المحتل، بل بفعل قوة المقاومة التي ترجمت للأجيال، وعلى أرض الواقع، حقيقة مقولة الزعيم العربي جمال عبد الناصر «ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة».
حُلُم تحرير الجنوب من الاحتلال الإسرائيلي، في العام 2000، لم يكن ليتحقق لولا سواعد المقاومين الأشاوس، ودماء الشهداء الأبطال، لكن لنعترف بأن كلفة التحرير كانت حتماً مضاعفة، لولا الدعم اللامحدود من سورية العروبة ومن الرئيس حافظ الأسد شخصياً ومن بعده الرئيس بشار الأسد، الذي ترافق مع وجود قيادة سياسية لبنانية، امتلكت الإرادة والانتماء الحقيقي بالعروبة الصحيحة، وبإيمان مطلق بأولوية تحرير الأرض العربية من دنس الاحتلال الإسرائيلي، عنيت بذلك الرئيس المقاوم العماد إميل لحود، ورئيس الحكومة سليم الحص، الذي رأس حكومة التحرير في أيار من العام 2000.
من هنا يمكننا القول إن تحرير لبنان، كشف تواطؤ معظم الذين تناوبوا على السلطة في لبنان في حقبة الاحتلال، وكذلك كشف عورات وتخاذل معظم الأنظمة العربية، فهذا الإنجاز التاريخي، أثبت للعالم أنه عندما تتسلح القيادة السياسية بثبات الموقف والحجة، وتلتقي مع قوة المقاومة، يمكننا صُنع المعجزات، وبلوغ هدف الانتصار المنشود، وهذا ما تحقق.
تحرير لبنان وصفه الرئيسان حافظ الأسد وسليم الحص بالانتصار التاريخي، لأنها المرة الأولى في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، التي يخلي فيها العدو أرضاً عربية بالقوة وبفعل المقاومة، ومن دون إبرام أي أتفاق سلام مع العدو، ودون علم إسرائيلي يرفرف في سماء لبنان.
عقب تحرير لبنان من الاحتلال الإسرائيلي قال الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله إن هذا الإنجاز هو انتصار تاريخي سيخلّف ارتدادات إستراتيجية، وعلى مدى العقود القادمة. وهذا ما حصل فعلاً، فما نراه اليوم من تراكم وتعاظم قوة المقاومة، في لبنان وفلسطين وسورية والعراق واليمن يثبت ذلك، وخصوصاً بعد تشكّل محور متكامل من المقاومة، متطوراً نحو توحيد ساحات المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي، وكل ذلك ما هو إلا ترجمة فعلية للارتدادات الإستراتيجية التي تولدت من رحم تحرير لبنان عام 2000.
ومن ذات الرحم تولّد الدافع الرئيس للمقاومة الفلسطينية بتحرير كامل غزة عام 2005 من الاحتلال الإسرائيلي، واليوم وبعد 14 جولة من القتال والمواجهة وصولاً إلى «سيف القدس» و«ثأر الأحرار» تمكنت المقاومة من فرض معادلة الردع التي عطلت قدرة جيش العدو الإسرائيلي، من تحقيق أي من أهدافه، وباءت جميع محاولاته المتتالية بفشل ذريع.
الإنجاز التاريخي في العام 2000، منح المقاومة اللبنانية الثقة بالنصر الذي تحقق في حرب تموز 2006، وتمكنت من إلحاق الهزيمة الكبرى بالجيش الذي لا يقهر ولا غلو بالقول إن هذا الانتصار شق الطريق نحو تحرير الجولان السوري المحتل وفتح الآفاق الواعدة أمام أجيال الداخل الفلسطيني، لبلوغ تحرير كل فلسطين.
إن عيد التحرير والمقاومة ليس عبارة عن تحرير أرض من الاحتلال وحسب، بل إن الحدث التاريخي في لبنان عام 2000، حرر الإنسان العربي من الهزيمة المزمنة، ومن الشعور بالضعف والانكسار، وطأطأة الرأس، وهو شعور لازمنا منذ 1948 تاريخ نكبة اغتصاب واحتلال فلسطين.
بين تحرير الأرض وتحرير الإنسان ثقافة تختصر الزمان والمكان، بلغت حدود فضاء فلسفة الوجود الحر، غير المقتصر على تحرير بقعة من الأرض، إنما الأهم من ذلك، هو بلوغ مرحلة تحرير عقل وتفكير الإنسان العربي، واليوم وبعد مضي 23 عاماً على تحرير لبنان وتحقيق الانتصار التاريخي، بتنا نستطيع القول إن ثقافة التحرر والمقاومة، حتى في وجدان وعقل وتفكير الأجيال الصاعدة التي لم تكن قد ولدت في زمن الاحتلال والتحرير، قد وصلت للمستوى الذي يمكّن الأجيال اللبنانية والعربية، العبور بكل ثقة إلى ضفة الانتصار، والتحرر من عقدة الاحتلال والهزيمة.