"ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمةً ونجعلهم الوارثين" (القصص/الآية 5)
ليس من المبالغة القول إن الامام الخميني (قده) هو “محقق حلم الأنبياء”. هذه الحقيقة ليست مرتبطة بكلها بمجرد نجاح الامام (قده) بإسقاط نظام الشاه ورفع ظلمه عن الشعب الايراني، لقد سبقه آخرون إلى هذا الفعل (قيادة ثورة ضد نظام جائر). لكن فرادة وخصوصية ما حققه الامام يكمن بعد إنهاء حكم الديكتاتور، بالتأسيس لمشروع أو بشكل أعمق لنظام حكم كامل عماده “الإسلام المحمدي الأصيل”. الأخير هو روح هذا النظام، سره وجوهره.
أي ثورة لا تسقط بحكم الزمن ربما، لا بل تزداد تألقاً وحضوراً وقوة؟ أي ثورة يحاربها جيشٌ مدعوم بمال الخليج وسلاح الغرب وهي لا تزال غضة وتقاتل وتصمد؟ أي ثورة تواجه كل أصناف الضغوط الأمنية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية وتنتصر؟ أي ثورة منذ بداياتها لا تلزم حدوداً جغرافية، فتمسي ثورة لكل المستضعفين في الأرض، وأكثر.
إنها ثورةٌ من روح من سُمي “روح الله”، ابن مدينة خمين، الذي لم يرَ في إسقاط الشاه محمد رضا بهلوي إلا وسيلة لتأسيس جمهورية إسلامية، تكون الخطوة الأساس لمشروع شكّل ويشكّل مرآة لقول الرسول محمد (ص) “مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى”.
باكراً، شرع الامام في ثورته، المتلازمة مع تثبيت رؤيته بقدسية الإعداد لنظام إسلامي، وهنا تكمن الثورة الحقيقية، خصوصاً أن الاطلاع على دور الإسلام في تلك المرحلة يوضح أن ما كان يقوم به الامام هو بمثابة تحد حتى لأقرانه من بعض علماء الدين ممن كانوا لا يرون في تناول قضايا الرأي العام والأمة قولاً وفعلاً ضرورة قصوى وأساسًا. وهذا أكثر ما أقلق النظام، الذي وبحكم المنطق لم تكن إمكانياته على كافة المستويات لتقارن مع إمكانيات الامام وأتباعه، إذاً فلماذا سارعوا إلى نفيه بعيداً؟
من كتاب “كشف الأسرار” بدأ الإمام الخميني عام 1943 نشر الامام هذا الكتاب الذي فضح الجرائم التي ارتكبها رضا شاه (والد محمد رضا بهلوي) طيلة عشرين عامًا، والأهم من ذلك تناول الكتاب فكرة الحكومة الإسلامية وضرورة إقامتها. الفكرة الأخيرة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمفهوم “الولي الفقيه”، الذي أسس له الامام الخميني، مؤكداً بذلك أن كل قضايا المسلمين في العالم وليس أبناء ايران فقط هي في عين ثورته.
وفي هذا السياق، أتى حراكه العلني الأول ضد الشاه من خلال وقوفه بقوّة ضد لائحة “مجالس المدن والأقاليم” التي كانت تتمحور حول حذف الإسلام كشرط من شروط الترشيح أو الانتخاب.
إلى جانب جوهرية الإسلام بالنسبة للامام، أعلن الأخير عن المنطلق الرئيسي الثاني لرؤيته، وهو الصراع مع “اسرائيل”، التي وصفها بـ “الغدة السرطانية”. من هنا كان خطابه الشهير عصر العاشر من شهر محرم/ حزيران 1963، الذي فضح فيه العلاقات السرية بين “إسرائيل” والشاه ليُعتقل بعد 24 ساعة، ولتخرجه أشهراً عشرة من التظاهرات رغم القمع الدموي الذي مارسته قوات الشاه: الشعب مع الامام.
لم يعد حضور الامام يحتمل بالنسبة لعدوه. ظنّ أنه بإبعاده جسداً عن ايران يطفئ ثورته. لكنه من تركيا إلى العراق حيث كتب “تحرير الوسيلة” الذي عكس جزءاً كبيراً من فكر الامام (أصول الجهاد والدفاع وقضايا معاصرة)، ثم إلى فرنسا التي حج إليها كثيرون للتعرف على هذا الثائر الذي يفيض ألقاً. في تلك الفترة وكما هو معلوم، فإن الشعب كان يتحرك دون توقف وفقاً لتوجيهات قائده. تضحيات وأرواح كثيرة بذلت في سبيل العزة والحرية، ليفرّ الشاه بحجة المرض، وليعود الامام.
في 11 شباط/فبراير 1979، انتصرت ثورة الامام. أدرك الأخير أن الثورة الحقيقية بدأت منذ تلك اللحظة، فإضافة إلى تحديات حمايتها وصون جوهرها، التي لن تتوقف طالما أن هذا النظام يتصدى لكل القضايا المحقة، هناك تحدي إثبات ما قامت من أجله، أي إسقاط الاستكبار بأشكاله المتعددة، من هنا وبعد أربع وثلاثين عاماً على رحيل الإمام، جسداً فقط، استطاعت جمهوريته الإسلامية المقتدرة تأسيس محور ممتد من اليمن إلى العراق وسوريا وفلسطين ولبنان، جعل من حرية فلسطين وعداً مثبتاً وليس حلماً.
أربع وثلاثون عاماً ورؤية الامام تحصّن ايران رغم كل يُحاك لها. أربع وثلاثون عاماً والامام بات دستوراً متكاملاً عن كيف تخلّد الثورات جيلاً بعد جيل وتتجدد في كل استحقاق وتنتصر.
المصدر: موقع المنار