بدأ كل شيء من لبنان: ربيع “اسرائيل الكبرى”، اتساع حدودها، ابتلعنا الصهاينة بعد فلسطين.
رحلنا كالفلسطينيين حاملين مفاتيح بيوتنا، لأن بعض العرب قالوا لنا إنهم لن يصمتوا وإننا سنعود، لأن الأمين العام للأمم المتحدة استنكر وأدان “العنف المفرط” بحقنا، داعياً مجلس الأمن للانعقاد بشكل عاجل، فأصدر الأخير قراراً يحمل رقماً ما (لا أذكره) ينادي بعودة اللاجئين اللبنانيين، باستثناء من تقع قراهم جنوب نهر الليطاني لأن تلك البقعة باتت “منطقة عسكرية مغلقة”، بحسب القرار.
كم بكت جدتي عندما أيقنت موت ذاكرتها، بأنها لن ترى “العديسة” قريتها التي تقع على الحدود بين لبنان وفلسطين، بأن التينة ستموت، بأنها جردت من كل شيء، لأن الأرض أمان وحياة وانتماء وهوية. جدتي لم تكن وحيدة في نكبتها، كان معها عشرات الآلاف، شاركوها المرارة نفسها، لوعة الفقد، ماتت أرواحهم ولم يكترث لهم أحد.
أذكر أن الاحتلال تمدد وتمدد، خصوصاً أن بعضاً من اللبنانيين وجدوا أن المهادنة هي الوسيلة الفضلى لاستجداء بعض المكتسبات، معلنين أنه “بما أننا لا نملك القدرة على مواجهة جيش هو الأقوى في منطقة الشرق الأوسط، فلا مانع من التفاوض لتنظيم العلاقات، ولا بأس بأن يكون الثمن أجزاءً واسعةً من الأراضي اللبنانية”. لم ينقذهم استسلامهم. لقد كنت وأسرتي (بحكم أننا نزحنا داخلياً) شاهدين على يوميات سوداء: إذلالٌ مستمر، شارك الاحتلال اللبنانيين حتى من هم خارج نطاق سيطرته العكسرية بأرزاقهم، أطبق عليهم أمنياً بعملائه وجواسيسه، اعتقالات ومداهمات يومية من أعوانه، جولات استهداف مدفعي أو جوي بين الحين والآخر، وضحايا بالعشرات، حتى لا نفكر بالتمرد أو المقاومة حتى نختنق ونرحل نهائياً كما حدث مع آلاف الشباب، كان أخي وخالي وابن جيراننا منهم.
يا لوقاحة البعض، من حملة الهوية اللبنانية. يا لوقاحة انبهارهم بالعدو وتهليلهم له. ما كان مستفزاً أن لهم اليد الطولى، فالعدو هو من كان حقيقة يقرر هوية القائمين على السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، حتى الإعلام، فكانت الشعارات تتمحور حول أهمية الانصهار والتبادل الثقافي والتجاري مع العدو، شعارات كاذبة، للقضاء على ما تبقى من حرية وسيادة.
أتذكرون ماذا أخبرتكم في البداية، بدأ كل شيء من لبنان، ولأن المشروع كُتب له النجاح، فكان لا بد من المضي قدماً. إلى أين؟ إلى حدود أكبر وأوسع، إلى ابتلاع المزيد من سوريا والأردن والعراق ومصر، إلى نهب كل ما لدينا، إلى موتنا جميعاً نحن العرب، فلا وجود حقيقي لمن يقتات على الفتات، لمن لا يملك مستقبله، لمن يولد أبناؤه عبيداً.
الحقيقة
لقد بدأ كل شيء من لبنان، تحديداً قبل ثمانية عشر عاماً من العام 2000. وقتها، قررت ثلة من “المجانين”، كما وصفهم بعض العقلاء، أنهم قادرون، أنهم مقاومة، أن ايمانهم لا يُقهر.
كان لهم ما أرادوا. في الخامس والعشرين من أيار عندما قالوا لـ “اسرائيل”، هنا بداية النهاية: قُهر جيشك، كُسر ردعك. في ذلك اليوم تردد صدى ذلك الصوت البهي “اسرائيل سقطت” في كل أرجاء فلسطين، أن انهضوا وطوعوا المستحيل ببنادقكم، فإنكم قادرون، وإنكم لمنتصرون.
كل ما قيل سابقاً محض أوهام، هذا ما حدث فعلاً، هذه ذاكرتنا، هذا زمن المقاومة:
المصدر: موقع المنار