نص الخطبة
في الروايات التاريخية ان الامام الصادق(ع) بالرغم من مكانته ومنزلته وتقدمه في السن كان يخرج من بيته ويعمل بيده ومجهوده وبعرق جبينه من اجل الكسب الحلال وتحصيل المال والرزق الحلال.
وكان يحب ان يراه الله في صورة العامل الشريف الذي يكدح ويتعب ويعرق ويجهد نفسه حتى لو كان مكتفيا وليس محتاجا، لان الله يحب ان يرى عبده يسعى وينشط في طلب الرزق وليس قاعدا وخاملا وكسولا.
فعن أبي بصير قال: “سمعت الامام الصادق عليه السلام يقول: إنِّي لأعمل في بعض ضياعي حتَّى أعرق وإنّ لي من يكفيني، ليعلم الله عزَّ وجلَّ أنِّي أطلب الرزق الحلال”
وعن أبي عمرو الشيباني قال: “رأيت الامام الصادق عليه السلام وبيده مسحاة وعليه إزار غليظ يعمل في حائط له والعرق يتصابّ عن ظهره فقلت: جُعلت فداك أعطني أُكْفِكَ، فقال لي: إني أحب أن يتأذَّى الرجل بحرِّ الشمس في طلب المعيشة”.
وعنه عليه السلام في حديث ثالث: إنِّي لأركب في الحاجة التي كفانيها الله، ما أركب فيها إلا لالتماس أن يراني الله أضحي في طلب الحلال، أما تسمع قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلَوٰةُ فَٱنتَشِرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَٱبۡتَغُواْ مِن فَضۡلِ ٱللَّهِ﴾”.
فالعمل مهم لكلِّ إنسان، مهما كان موقعه وشرفه، وهو مطلوب ليس لسد الحاجة فقط، بل لاجل الحفاظ على نشاط الانسان وحيويته وبنيته القوية، فما دمت قادراً على العمل فعليك أن تعمل، وإن لم تكن محتاجاً للمال لان الله يحب ان يراك فاعلا وناشطا ومنتجا وليس خاملا.
من يتكاسل ويصاب بالخمول ويعرض عن العمل وتحصيل الحلال يفتقد صفة الخير في نفسه، كما يقول الإمام عليه السلام: “لا خير فيمن لا يحبُّ جمع المال من حلال”.
وإذا تعذّرت على الإنسان بعض مجالات العمل، فعليه أن لا ييأس أو يستكين ويحكم على نفسه بالعجز، فقد جاء رجل إلى الإمام الصادق عليه السلام فقال: إنِّي لا أحسن أن أعمل عملاً بيدي ولا أحسن أن أتَّجر وأنا محارف محتاج(يعني محروم من العمل أبحث عن عمل ولا أجد)، فقال عليه السلام: “اعْمَل فاحْمِل على رأسك واستغن عن الناس، فإنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد حمل حجراً على عاتقه فوضعه في حائط له من حيطانه…”.
فالإنسان يجب أن لا يتحجج بأنه لا يحسن العمل، إذ إنّ كثيرًا من الأعمال يمكن أن يؤدِّيها أيُّ شخص، فهي لا تحتاج إلى مهارات خاصَّة.
ولم يكن الامام يكتفي بالعمل بيده بالارض والزراعة والحراثة، بل كان يستثمر أمواله في التجارة وعدم ادخار الاموال وتجميدها وتخزينها، كان يدعو الى استثمارالاموال وتوظيفها في جميع المجالات والمشاريع الاقتصاديّة التي تخدم المجتمع، كالزراعة، والصناعة، والتجارة وغير ذلك، فان استثمار الأموال يُعدّ أحد العوامل الأساسيّة في النموّ الاقتصاديّ، يحرك العجلة الاقتصادية ويحرك السوق ويخلق فرص عمل ويؤدّي إلى الحد من الفقر والحرمان.
يقول الإمام الصادق عليه السلام: “إنَّما أعطاكُمْ اللهُ هذهِ الفُضولَ مِن الأموالِ، لتُوجِّهوها حيثُ وَجّهَها اللهُ، ولَم يُعطِكُموه، لتكنِزُوها” يعني اعطاكم الاموال الوفيرة ليس لتجمدوها في البنوك بل لتحركوها في الاستثمار وفي التنمية الاقتصادية.
البنوك والمصارف لم تعد مكانا آمنا لحفظ الاموال في ظل الازمات الاقتصادية والمالية التي يشهدها العالم وعلى الاقل فان تجميد الاموال في البنوك قد يعرضها للنهب والسرقة من قبل اصحاب البنوك كما حصل عندنا في لبنان حيث ذهبت اموال المودعين وتبخرت والدولة عاجزة عن حتى الآن عن استردادها.
استثمار الاموال في مشاريع وتجارات ذات جدوى يحفظ الاموال وينميها ويساهم في تحريك العجلة الاقتصادية في البلد ويخلق فرص عمل للشباب وطالبي العمل.
ولذلك كان الامام يستثمر بعض أمواله الفائضة عن حاجته في التجارة ، فقد روي ان الامام أعطى تاجرا ألفاً وسبعمئة دينارٍ، فقال له: “اتَّجِر لِي بِها”. ثمّ قال عليه السلام: “أَما إنّهُ لَيسَ لِي رَغبَةٌ في رِبحِها، وإنْ كانَ الرّبحُ مَرغوباً فيهِ، ولكِنِّي أحبَبتُ أن يَراني اللهُ عزَّ وجلَّ مُتعرِّضاً لفَوائدِهِ”.
يقول التاجر فاخذت منه المال وربحتُ له فيه مائة دينارٍ، ثمّ لقيته، فقلتُ له: قد ربحتُ لك فيها مائة دينارٍ، ففرح عليه السلام بذلك فرحاً شديداً، وقال لي: “أَثبِتْها في رَأسِ مالِي”.
وكان يحرص الامام(ع) على ان تكون الارباح التي يحصل عليها من خلال التجارة والاستثمار بالطرق المشروعة لا الملتوية،وان لا يكون فيها ادنى شبهة حرام او ظلم او اجحاف بحق الاخرين، فلم يكن يرضى ان ياخذ ارباحا حصل عليها شركاؤه عن طريق استغلال حاجة الناس للسلع وبيعها باسعار فاحشة ومضاعفة انتهازا للفرص واستغلالا لظروف الناس والازمات كما يفعل بعض التجار اليوم، ممن يستغلون الازمة المعيشية فيبيعون باسعار فاحشة وينهشون الناس ولا يرحمون احدا .اربح ولكن اربح القليل وارحم الناس.
فقد روي في حديث انه قال لأحد التجار: إن عيالي قد كثروا، ولدي الف دينار واريد ان اتجر به، فلو أخذتَ مني هذا المال وتاجرت به إليَّ – هذه المعاملة تسمَّى بالمضاربة، فيكون للتاجر نصيب من الربح، وللإمام نصيب- فاخذ الرجل المال واضافه الى ماله واشترى بضاعة وخرج مع تجارٍ آخرين إلى مصر، وفي الطريق إلى مصر سألوا عن أحوال السوق في مصر، فقيل لهم: إنَّ الناس في أمسِّ الحاجة للبضائع التي تحملونها، فتعاهد التجار فيما بينهم أن لا يبيعوا شيئاً بدينار إلَّا ومعه دينار ربحاً، فدخلوا سوق مصر فباعوا ما قيمته دينار بدينارين. وكان الإمام (ع) قد أعطى هذا الرجل ألف دينار، فلما رجع التاجر من مصر رجع إلى الامام بالفين، وقال: هذه ألفٌ هي راس مالك، وهذه ألفٌ هي ربح أموالك. فقال له الإمام: تربحون على الناس بالضعف؟ كيف ذلك ؟ قال له: نحن ذهبنا إلى مصر وكانوا في حاجة ماسَّة إلى البضائع، فبعناهم الدينار بدينارين، وهم قد اشتروها منا بمحض إرادتهم ولم نجبرهم على ذلك. فقال الإمام (ع): فقال: سبحان الله تتحالفون على قوم مسلمين أن لا تبيعوهم إلا بربح الدينار دينارا، هذا ليس من اخلاقنا، ثم قال: اعطني الألف التي هي راس مالي، وأمَّا الألف الأخرى فلا حاجة لنا بهذا الربح ، ثم قال (ع): مجالدة السيوف، أهون من طلب الحلال. يعني الحصول على الربح الحلال ليس هيِّناً ولا سهلاً، فمَن أراد أن يريد ان يحصل على المال الحلال ويأكل الحلال عليه يدقق كيف يحصل على الارباح والاموال عليه ان يبتعد عن مواطن الشبهة ، فلا ينبغي للمؤمن أن يتساهل في تحصيل الارباح كيفما كان ،بالغش بالاحتيال برفع الاسعار واستغلال الازمات وحاجة الناس الى السلع، على الانسان أن يتحرَّى ويدقق فيما يبيع ويشتري ويحصل عليه من اموال، هل هو من موارد الحلال او من موارد الحرام هل هو من موارد الشُّبهة أو من موارد الحلال البيِّن الواضح الذي لا شبهة فيه.
فالإمام الصادق عليه السلام يُعلّمنا الأسلوب الصحيح في الحفاظ على المال، وذلك باستثماره في مجالات عديدة وليس في مجال واحد، فاذا كان لدى الانسان اموال وفيرة فليستثمرها في عدّة مشاريع وفي عدة اماكن، وليشتري ارضا وعقارا لان ذلك من أفضل وانسب الطرق لحفظ الاموال. فانه اذا وزع الانسان امواله بين مشروع هنا وعقار هناك، فانه اذا حدث ان خسر في هذا المشروع فلا يخسر امواله كلها وانما يبقى لديه مال في مشروع اخر اوفي ارض او عقار يستطيع ان يبيعه عند الحاجة ويؤمن حاجات عياله.
فقد أوصى الإمام جعفر الصادق عليه السلام أحد أصحابه أن يشتري مزرعةً أو بستان، لأنّ الذي يمتلك رصيداً مادّيّاً يؤمّن حاجاته وحاجات عياله، سوف لا يعاني كثيراً، ويكون مرتاح البال اذا تعرّض لازمة او حادثةٍ. فقد روي انه قال لاحد اصحابه: “اتّخِذْ عقدةً أو ضَيعةً، فإنّ الرّجلَ إذا نزَلت بهِ النّازِلةُ أو المصيبةُ، فذَكرَ أنّ وَراءَ ظهره ما يقيمُ عيالَهُ، كانَ أسخَى لنفسِهِ”.
لقد اراد الامام الصادق من خلال هذه الاحاديث والوقائع التاريخية ان يعلمنا ويصحح لنا بعض المفاهيم المتعلقة بالعمل والكسب وتحصيل الرزق ويؤكد على مجموعة امور:
1-العمل والانتاج مطلوب بحد ذاته فطالما الانسان قادرا على العمل عليه ان يعمل حتى لو كان كبيرا في السن وحتى لو كان مكتفيا وليس محتاجا.
2-على الانسان ان لا يتعيب من اي عمل شريف حتى لو كان بسيطا فان العمل الوضيع اشرف من ان نمد اليد للناس، ولذلك نقول للشباب الذين يستنكفون عن العمل بالزراعة والصناعة وغيرها من الاعمال الشاقة والمتعبة او الاعمال الوضيعة لا تتعيبوا واعملوا حتى في الارض والبساتين وغيرها.
3-لا ينبغي ترك العمل بحجة الانصراف والتفرغ للعبادة او للعمل الاجتماعي والخيري او للشان العام، ثم ترك العيال على باب الله، لا قيمة لعمل عبادي او اجتماعي او خيري او انساني مع ترك العيال من دون تأمين حاجاتهم.
فقد روي ان الامام سأل عن احوال شخص يعرفه فقيل: أصابته الحاجة، قال عليه السلام: “فما يصنع اليوم؟”، قيل: في البيت يعبد ربّه، قال عليه السلام: “فمن أين قوته؟”، قيل: من عند بعض إخوانه، فقال أبو عبد الله عليه السلام: “والله، لَلَّذي يقوته أشدّ عبادةً منه”.
ويقول الإمام الصادق لشخص آخر: (ما لي أراك تركت غدوَّك إلى عِزّك؟! قال: جنازة أردتُ أن أحضرَها. قال: فلا تدع الرواح إلى عزّك).
والعكس صحيح ايضا يعني الاستغراق في العمل وترك الواجبات العبادية والمسؤوليات الاجتماعية وعدم الاهتمام بالشان العام وما يجري من احداث وتحديات عدم الاهتمام بشؤون المسلمين وما يجري عليهم والانصراف عن المسؤوليات الجهادية والوطنية بحجة ضغوط العمل والمشاغل هذا كله ليس صحيحا ايضا.
البعض عندما تقول له لماذا لا تأتي الى المسجد للصلاة جماعة ؟ لماذا لا تقراء القران ؟ لماذا لا تحضر في الدرس الفلاني او في المحاضرة الفلانية ؟ يقول لدي اشغال كثيرة ولا افرغ ولا وقت لدي!!
البعض نتيجة كثرة مشاغله واستغراقه في العمل ينسى عياله فلا يجالسهم ولا يحدثهم ولا يتابعهم بالشكل المطلوب!! وهذا خطأ كبير.
على الانسان ان يوازن بين عمله وبين متطلبات أسرته وعائلته، وان يوازن بين أشغاله وبين وواجباته ومسؤولياته الروحية والعبادية والاجتماعية والجهادية والوطنية.
المؤمن عليه مسؤوليات يجب ان يقوم بها، وعليه ان يهتم بما يجري من حوله وان يعيش الاحداث ويتفاعل معها واذا كان المطلوب منه تحمل مسؤولية معينة عليه ان يتحملها ويقوم بواجباته الدينية والاجتماعية والوطنية .
اليوم معادلات الصراع في المنطقة وخاصة مع الاسرائيلي تتغير لمصلحة محور المقاومة فالعدوان الصهيوني الاخير على غزة فشل، ولم يستطع الاسرائيلي تحقيق ما كان يريده من العدوان الغادر ، فاحد اهم الاهداف التي ارادها نتنياهو من العدوان وقتل قادة من سرايا القدس مع نساءهم واطفالهم كان ترميم الردع الاسرائيلي المتآكل، لكن لم تؤد المعركة الى ترميم قدرة الردع الاسرائيلية ، وبقيت معادلة الصراع في غزة على حالها، ولم يستطع الاسرائيلي ان يفرض معادلات جديدة بدليل ان الصواريخ بقيت تنهمر على عمق الكيان الصهيوني حتى اللحظة الاخيرة، وعندما يدعي نتنياهو انه استطاع استعادة الردع في غزة فانه يكذب على الرأي العام الاسرئيلي لان المعادلة التي ارستها معركة ثأر الاحرار هي ان أي عملية اغتيال في المستقبل لأي مجاهد او قائد في قطاع غزة لن تمر وأنما ستؤدي إلى مواجهة واسعة كما حصل الاسبوع الماضي، وستنهمر الصواريخ مجددا على امتداد الاراضي المحتلة بما فيها تل ابيب والقدس، وتشل الكيان وأمنه ومجتمعه كما شلته في الاسبوع الماضي.
اسرائيل فشلت وهزمت في غزة امام فصيل واحد هو الجهاد الاسلامي، فكيف سيكون حالها اذا واجهت كل فصائل المقاومة الفلسطينية مجتمعة؟ وبالتالي كيف سيكون مصيرها اذا توحدت الساحات وفتحت الجبهات وانهمرت الصواريخ من كل حدب وصوب على الكيان الصهيوني؟.
اسرائيل لم تعد قادرة على تغيير معادلة تساقط الصواريخ على الكيان امام اي عدوان على فلسطين او لبنان، وهذا تطور نوعي واستراتيجي في مسار الصراع استطاعت المقاومة في لبنان وفلسطين ان تفرضه على العدو، وكل هذا انما هو ببركة الارادة والجهاد والصمود والثبات والتضحيات ودماء الشهداء والقيادة الحكيمة والاحتضان الشعبي الكبير للمقاومة .