أقل من أربع وعشرين ساعة تفصل تركيا عن انتخابات رئاسية وبرلمانية مفصلية وحاسمة (هي الثانية وفقاً للنظام الرئاسي الذي هو نتاج تعديلات دستورية أقرّها رجب طيب أردوغان عام 2017)، والتي من الممكن أن تذهب إلى دورة ثانية بعد أسبوعين في حال لم يحصل أي من المرشحين على أكثر من نصف الأصوات.
منذ عام 2002، تاريخ تولي حزب العدالة والتنمية السلطة في البلاد وحتى العام الحالي 2023، أي خلال أكثر من عشرين عاماً، شهدت البلاد أكثر من عشر انتخابات فاز بها الأخير كلّها، حتى اتهم زعيمه الرئيس الحالي للبلاد رجب طيب أردوغان بأنه “مدمن سلطة”، إذ تعرض عام 2016 لمحاولة انقلاب فاشلة من الجيش، الذي سبق أن أطاح بأربع حكومات منذ العام 1960، بل إن هذه المحاولة أدّت إلى اتساع في صلاحيات أردوغان الذي حكم البلاد كل هذه الفترة وسط تأييد شعبي كبير، محدثاً خلالها تغييرات جذرية على مستويات عدة دستورية وسياسية واجتماعية واقتصادية. أردوغان يمرّ الآن وللمرة الأولى، إذا صحّ التعبير، بأصعب اختبار لشعبيته (64 مليونا و113 ألفا و941 عدد الناخبين وفق الهيئة العليا للانتخابات)، وقدرته على البقاء حقيقة في السلطة، فما أسباب ذلك؟ ومن هم منافسيه، الأول والأقوى كيلجدار اوغلو، أما الثاني فهو سنان أوغان، وذلك بعد انسحاب الثالث محرم انجه بشكل مفاجئ قبل ثلاثة ايام فقط من الانتخابات.
التحدي الأصعب
يمثل الاستحقاق الاقتصادي المتمثل بالأزمة المعيشية التي تمرّ بها البلاد، واحدة من أبرز النقاط التي يستخدمها خصوم أردوغان ضده. فالأخير يُحمّل مسؤولية الارتفاع الهائل في معدلات التضخم (معدل التضخم الرسمي في الوقت الحالي يزيد قليلاً عن 50 في المئة، في وقت يقول فيه أكاديميون إنه أعلى من 100 في المئة)، بسبب موقفه الرافض لرفع أسعار الفائدة.
إضافة إلى الأزمة الاقتصادية، جاء زلزلال كهرمان مرعش (جنوب شرق البلاد) في 6 شباط/فبراير، ليفاقم من حدة الأزمة مع مقتل خمسين ألفاً ووجود عدد غير معروف من المفقودين إضافة إلى آلاف الجرحى، وملايين المشردين توزعوا على الأقاليم الاحدى عشر أو باتوا يسكنون خيماً أو حاويات. عقب الكارثة، كان من الواضح اعتبار معارضي الرئيس التركي أنها فرصة ذهبية على أبواب الاستحقاق الانتخابي، خصوصاً أن أصوات سكان مناطق شرق البلاد قد تكون حاسمة في تحديد النتائج، مع انتقادات وجهت لأردوغان مفادها ” سوء إدارة عمليات البحث والإنقاذ، والتقاعس عن تغيير القواعد الناظمة لممارسات البناء والإنشاء في السنوات الماضية، مما كان سيقلل من نسبة الوفيات جراء الزلزال”.
إلى جانب ذلك، تأتي أزمة ثلاثة ملايين وستمئة ألف لاجئ سوري، لتلقي بظلالها أكثر من أي وقت على الشأن الداخلي التركي، خصوصاً مع تفاقم الأزمة الاقتصادية، وصعوبة تحقيق هذه العودة التي سبق أن أعلن وزير الدفاع التركي منذ أشهر أنها يجب أن تكون “عودة طوعية وآمنة”، وبحسب ما أعلن الرئيس التركي بداية العام الحالي فإن “عدد اللاجئين العائدين إلى سوريا سيزداد كلما آتت الاتصالات الدبلوماسية التي تجريها تركيا منذ فترة مع روسيا ونظام بشار الأسد بثمارها”، وهنا يطرح هذا السؤال نفسه: في حال خسارة أردوغان الانتخابات ما سيكون مصير المحادثات الهادفة لتطبيع العلاقات التركية-السورية، وما قد يعكسه ذلك من تعقيد على صعيد أزمة اللاجئين التي تعلن المعارضة أنها على رأس أولوياتها (أعلن كيلجدار اوغلو أنه سيعيدهم إلى بلادهم في غضون عامين)، مع الإشارة إلى عدم وجود نية دولية جدية لحل هذا الموضوع قريباً.
في سياق منفصل، نذكر أن من بين الناخبين خمسة ملايين من الشباب الذين وُلد أغلبهم مع تولي حزب العدالة والتنمية الحكم قبل واحد وعشرين عاماً، ومن هنا يرى البعض أن “جدلية هذا الجيل تنبع من أنه لم يشهد أزمات سياسية وحكومات ائتلافية، ما يجعله أبعد عن معرفة تاريخ البلاد، وهو ما يدفعه إلى الإحساس بالحاجة إلى التغيير مع ما تعانية البلاد من أزمة لجهة التضخم وانخفاض القدرة الشرائية”. لذا فقد لجأ المرشح المعارض كلجدار أوغلو إلى وسائل التواصل الاجتماعي من أجل توجيه خطاب للشباب، وبدأ ببث فيديوهات منذ نحو عامين من منزله، متحدثاً عن همومهم وهموم الشعب. أما أردوغان فقد وعدهم برفع الضريبة عن أول هاتف ذكي وحاسوب للشباب يشترونه والبالغ 18 في المائة، وتقديم باقات مجانية من الإنترنت وتسهيل قروض للزواج.
تعارض حاد في الرؤى
تولى أردوغان منصب الرئيس لفترتين، ولذا فإن فترة رئاسية ثالثة “تبدو مخالفة لقواعد الدستور التركي”، كما يعلن بعض المعارضين للأخير. لكن المجلس الأعلى للانتخابات في تركيا قضى بأنه “ينبغي اعتبار أن فترته الرئاسية الأولى بدأت في عام 2018 وليس 2014، حيث إن النظام الرئاسي الجديد الذي يشمل إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية في نفس اليوم بدأ في عام 2018”.
يعكس هذا النقاش الدستوري تذمراً واستياءً كبيرين للتعديلات الدستورية التي قادها “العدالة والتنمية” عام 2017، بتوافق مع حزب الحركة القومية المعارض، تحديداً من قبل حزب الشعب الجمهوري (يقوده كمال كيلتشدار اوغلو حالياً). لكن نتائج الاستفتاء الشعبي (51,41% وافقوا عليها) أتت لتحسم كل شيء.
في عام 2023 يعود هذا الجدل إلى الواجهة، مع إعلان كليجدار أوغلو (الخصم الأقوى لأردوغان كما تشير استطلاعات الرأي والمدعوم من خمسة أحزاب معارضة أو ما يُسمى بتحالف الشعب ومنهم حزب الشعوب الديمقراطي المدعوم من الأكراد) أنه “سيعيد تركيا إلى النظام البرلماني واستعادة منصب رئيس الوزراء وضمان استقلال المحاكم وتعزيز الحريات الصحفية”. لكن قبل أن تتخلص المعارضة من “الرئاسة القوية”، قد تحتاج إلى استخدام السلطات التي تتمتع بها الرئاسة لفرض الإصلاحات التي تعتزم تطبيقها، إذا لم تحقق الأغلبية الكافية في البرلمان.
بالنسبة للسياسة الاقتصادية، فإن العودة إلى السياسات الاقتصادية التقليدية واستقلال البنك المركزي، هي احدى النقاط المهمة الموضوعة في خطة اوغلو، قائلاً إن ذلك “سيؤدي إلى خفض التضخم إلى 30 في المئة بحلول نهاية عام 2023 وسيستمر في الانخفاض بعد ذلك”. في مقابل تخلي حكومة أردوغان مؤخراً عن السياسات الاقتصادية التقليدية، برفع أسعار الفائدة.
أما لجهة الرؤية السياسية، فهنا لا بدّ من الإشارة إلى الأهمية الاقليمية والدولية لتركيا (دولة التناقضات بحسب البعض لجهة علاقتها مع روسيا وايران والصين من جهة وعضويتها في الناتو من جهة ثانية، إضافة إلى توغلها عسكرياً في سوريا والعراق وليبيا، مع دعمها للأخوان المسلمين، إضافة إلى علاقتها بكيان العدو الاسرائيلي)، مما يجعل هذه الانتخابات محط أنظار، لما ستحسمه على أكثر من صعيد.
ومن هنا، نذكر أن تركيا جزء من “تحالف الغرب الدفاعي حلف الناتو”، وفي الوقت نفسه فإن أردوغان وثق علاقات بلاده مع الصين وروسيا أيضا، حيث اشترت تركيا نظام الدفاع الجوي الروسي أس-400، وافتتحت قبل الانتخابات محطة طاقة نووية روسية الصنع، هي الأولى من نوعها في تركيا.
يدعو أردوغان إلى أن تتبنى تركيا تحالفات متعددة الأطراف، ويعرض لعب دور الوسيط في الحرب الروسية في أوكرانيا، في وقت استطاع أن يلعب فيه دور الوسيط في صفقة تصدير الحبوب الأوكرانية. من جهة ثانية، يرغب خصمه وحلفاؤه في العودة إلى مفاوضات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وتعزيز العلاقات العسكرية مع الولايات المتحدة، مع الحفاظ على علاقات تركيا مع روسيا.
المصدر: موقع المنار