قلة من شباب الجيل العربي الصاعد لا يعرف الرئيس سليم الحص حق المعرفة، إلا من خلال سماع سيرته المعروفة بالنزاهة والتعفف، المليئة بمواقفه المشرفة المؤمنة بالقومية العربية وبتمسكه المطلق بالقضية الفلسطينية واحتضانه لحركات المقاومة ضد العدو الصهيوني، ولا سيما المقاومة اللبنانية التي دعمها وكان ضنيناً عليها.
إصدارات وكُتب الرئيس سليم الحص العديدة، وثّقت بكل أمانة مراحل ترؤسه خمس حكومات لبنانية ما بين عام 1976 وصولاً لآخر حكومة في عام 2000، حينها أعلن اعتزاله العمل السياسي اللبناني مكرساّ اهتمامه للعمل الوطني، وقضايا نهضة القومية العربية وتعزيز سبل التعاون العربي المشترك.
كُثر من السياسيين والدبلوماسيين العرب والأجانب، يشهدون بأن الرئيس سليم الحص هو صاحب شخصية لمّاحة وبأنه صاحب نظرة ثاقبة وقارئ جيد لمجريات الأحداث والمتغيرات، يمتلك مواقف وطنية وعربية صلبة تنطلق من قناعات راسخة خصوصاً في ما خص الحق الفلسطيني التاريخي والصراع العربي الإسرائيلي وتأثيره على دول منطقتنا العربية.
في 24 من شهر أيار من العام 2000 شهدت حكومة الرئيس سليم الحص في عهد الرئيس إميل لحود، أول تحرير لأرض عربية من الاحتلال الإسرائيلي وبالقوّة، بعد تكبده الخسائر العسكرية الفادحة نتيجة عمليات المقاومة اللبنانية، حينها قال الرئيس الحص: لم يخب أبداً رهاني على المقاومة، والآن أنا مرتاح الضمير لأن وطني تحرر من الاحتلال، دون إبرام أي اتفاق سلام، ولأنني حققت حلم الرئيس جمال عبد الناصر وحلم الرئيس حافظ الأسد.
في عام 2006 وبعد أسبوع من الحرب الإسرائيلية المدمرة على لبنان، كلّفني الرئيس الحص، بالاستعلام عن آخر المستجدات الميدانية للمقاومة في الجنوب، وبعد حصولي على تفاصيل الإحداثيات من مصدر موثوق في المقاومة، قمت بنقلها حرفياً ومفادها أن شباب المقاومة صامدون في منطقة مارون الراس الحدودية، وما زالوا يقاومون الجيش الإسرائيلي ويمنعونه من التقدم ويلحقون به الخسائر الفادحة.
على الفور ارتسمت على وجه الرئيس الحص علامات الفرح، وقال:
لقد انتصرنا، ولا شك بأنه سيكون انتصاراً إستراتيجياً، وهنا بادرته بالسؤال كيف حسمت الأمر وطائرات العدو تدمر المنازل والأحياء السكنية في الضاحية، هنا لم يتأخر الرئيس الحص بالإجابة قائلاً: إن جيوشاً عربية بعديدها لم تصمد هذا الصمود، والنتيجة كانت احتلال سيناء في ستة أيام، أما اليوم فإن العدو الإسرائيلي لم يتجرأ على عبور حدودنا رغم مرور سبعة أيام على بدء الحرب.
وبعد 33 يوماً من القتال صحّت نظرية الرئيس الحص، وحققت المقاومة أعظم انتصار على العدو الصهيوني، وقهرت الجيش الذي لا يقهر، بعدما مني بهزيمة إستراتيجية مدوية ستظل ماثلة أمام العدو الإسرائيلي إلى الأبد.
في شهر أيلول من عام 2011 وبعد عودة الرئيس الحص من زيارة الرئيس بشار الأسد في دمشق، أُجريَت معه حينها مقابلة صحفية عبّر فيها عن موقفه الواضح والداعم للرئيس الأسد رغم تعرضه لانتقادات شديدة من قيادات لبنانية وعربية شاركت بطعن سورية وانقلبوا ضدها، لكن الرجل كعادته بقي ثابتاً في موقفه المؤيد لسورية موجهاً اللوم للجامعة العربية لتقاعسها عن بذل الجهود الممكنة لوقف المؤامرة التي حيكت ضد سورية.
الرئيس الحص كعادته بقي متمسكاً بقناعته ورؤيته بأن سورية تتعرض لمؤامرة كبيرة، هدفها النّيل من هويتها وعروبتها ومن دورها المحوري في المنطقة، انتقاماً لمساندتها حركات المقاومة ضد العدو الصهيوني، وختم المقابلة الصحفية بالقول: إن سورية قوية عريقة بتاريخها وبموقعها الجغرافي، وإنها ستتجاوز هذه المؤامرة الدنيئة، وإنها ستنتصر بلا أدنى شك.
فور انتهاء المقابلة الصحفية بادرت الرئيس الحص بسؤال عن سر تأكده من تجاوز سورية للمحنة وانتصارها، وهنا أستطيع القول بأن جوابه شكل درساً من دروس الرئيس سليم الحص المعززة بالتحليل المدعّم بالحُجّة والقرائن حيث أمسك بيدي وأجلسني بجانبه وقال:
إيماني بانتصار سورية ثابت لأنه نابع من دروس وعبر التاريخ، فسورية صاحبة سجل عربي عريق ومشرف، كما أنها تعرضت لأزمات سياسية ولحصار اقتصادي خانق وانقلابات عسكرية متعددة، لكن سورية لم تفقد توازنها وبقيت صامدة متمسكة بهويتها العربية الأصيلة وتجاوزت كل الصعاب والمحن على مر التاريخ، واحتلت موقعاً عربياً مميزاً جعل منها نقطة ارتكاز في المنطقة، الأمر الذي منحها القدرة على لعب دور محوري في المتغيرات الدولية والإقليمية، فكانت المرجع والملاذ العربي الوحيد خصوصاً بعد خروج مصر عن التنسيق العربي بعد اتفاقية كامب ديفيد 1979.
الرئيس الحص تابع في شرحه المفصل، وقال: إذا كنت تريد قراءة مستقبل أي بلد عربي عليك دراسة تاريخه وموقعه الجيوسياسي جيداً، فسورية تمتلك موقعاً جغرافياً مهماً في قلب الوطن العربي، وهي عقدة الحل والربط للأمن القومي في المنطقة، وتكاد تكون الممر الإلزامي لأي تعاون عربي أمني أو سياسي أو اقتصادي.
الرئيس الحص أكمل في شرحه بالقول يجب أن ندرك جيداً طبيعة سورية وشعبها وعقيدة جيشها العربي، أضف إلى ذلك أن سورية تتمتع بقيادة حكيمة أخلصت لسورية ولشعبها، أسس لها الرئيس حافظ الأسد وسار على نهجه الرئيس بشار الأسد مقدماً نموذجاً فريداً من الصمود الأسطوري أدهش الحلفاء قبل الأعداء، خصوصاً موقفه التاريخي في 2003 وذلك بعد رفضه إملاءات الإدارة الأميركية وهي في قمة سطوتها على المنطقة واحتلالها للعراق، وهذا ما يؤكد تحطيم كل المؤامرات التي تحاك ضد سورية.
ختم الرئيس الحص درسه مؤكداً أن لا قيامة ولا وزن للعرب من دون سورية، لأنها قلب العروبة النابض أبداً، وأنه مهما تكالبت عليها بعض الأنظمة العربية أو الغربية ومهما طبّع العرب مع العدو الصهيوني، سيأتي زمان ليس ببعيد، ليكتشف العرب ارتكابهم الخطأ الفادح والجرم بحق سورية، وإن إسقاطها لا قدر الله يعني إسقاط آخر حصن للعرب، وإن إيغال بعض العرب بالتطبيع لن يقيهم شر الإطاحة بأنظمتهم واحداً تلو الآخر، وسيدركون أن لا مظلة تحميهم إلا المظلة السورية، وأنه متأكد من مشهد عودة العرب إلى سورية فرادى أو جماعة، وذلك من أجل إعادة التوازن العربي الذي اختل جراء التطبيع وإبرام اتفاقات سلام مذلة مع العدو الإسرائيلي.
منذ عام 2011 حتى عامنا 2023 مرت على سورية سنوات عجاف، لكن بقي إيماننا ثابتاً بانتصار سورية، وحين لمسنا التحول في الموقف التركي وتودد الرئيس رجب طيب أردوغان وتوقه للقاء الرئيس بشار الأسد بعد إدراكه فشل المشروع الأميركي في سورية وتأكده من صعوبة الصلاة في المسجد الأموي إلا بعد الحصول على إذن الرئيس بشار الأسد، إضافة إلى الحديث عن الجمع بين وزيري خارجية البلدين في موسكو أو في أبو طبي، وبعد مشاهدة مراسم استقبال وزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد للمرة الثانية في القصر الرئاسي في دمشق وبغطاء سعودي غربي، وحين يقول الرئيس الأميركي جو بايدن بأن سورية لم تعد قطعةً في جيب الجينز الأميركي لأن العالم تغير، حينها تدرك عظمة سورية، وأنها بصمودها تمكنت من كسر سهام المتآمرين على أعتابها.
هنا لابد لي من إنصاف الرجل الذي كان أول من أعطانا الحجة والدليل، وبقي ثابتاً على موقفه مؤمناً بتاريخ سورية وبانتصارها، وأن ما قاله منذ 12عاماً كان درساً من دروس الرئيس سليم الحص كيف لا وهو الذي استثناه الرئيس حافظ الأسد من بين رؤساء وزراء العرب وقلده وسام أمية الوطني ذي الرصيعة.