كتب وزير الثقافة القاضي محمد وسام المرتضى مقالة لمناسبة الميلاد، بعنوان:” ايها اللبنانيون فلنكن جميعا كما أرادنا المسيح”.
ومما جاء فيها : “أنا ابن جيل فرضت عليه الحرب الأهلية اقتناعاته، ومشاعره، ومخاوفه، وهواجسه، وانفعالاته، وأحاسيسه. نشأت في بيت مسلم صرف، وعشت في منطقة إسلامية خالصة، فكان المسيحي بالنسبة إلي ذلك “الآخر” الذي يهددني في وجودي وكينونتي، ويخطفني ويذبحني ويقصفني، ويرعبني مجرد التفكير فيه، الممتلئ شرا، البعيد عن كل خير، رغم أني ما التقيته أبدا. وتألمت لكل واقعنا، والألم يشفي. وفي المسير، التقيت المسيحي عن مسافة قريبة جدا. كان شفافا معي، يشركني في مكنونات نفسه. وراقبت حركيته – وهو الملتزم – فوجدت فيه نموذجا للإنسان العظيم؛ واكتشفت أن سر عظمته يكمن في كونه ملتزما بالمسيح، ذائبا في حب الله، حريصا على طاعته. والأمر عينه اكتشفته في مسيحيين آخرين؛ فأدركت غفلتي، وأني كنت في كهف نفسي مظلم، سجنتني فيه تراكمات الحرب، والأخبار، وحكايات البيئة، والقصف، والرعب”.
أضاف المرتضى : “نعم وعيت أن إصراري على أحكامي المسبقة سيبقيني أسير ذلك السجن؛ ثم، بنعمة من الله، أدركت أن لا محل لإيمان بالله مع انغلاق على إنسان يحب الله مثلما أحبه أنا المسلم ويلتزم طاعة الله ويفتش عن إرادته، تماما كما أفعل. ونشأت صداقة مع هؤلاء، وصاروا أقرب الناس إلي، بعد أن كانوا أبعد الناس عني: أصدقائي بحق، لا لأنهم أبناء مذهبي أو منطقتي أو زملاء مهنة أو لمصلحة، ولكن لأنهم محبون وصادقون. وهم محبون وصادقون لأنهم مؤمنون، مؤمنون على الطريقة المسيحية، لا يهمني، المهم أن إيمانهم يولد فيهم المحبة والصدق والخير والتواضع والرقة ورفض الظلم ومناهضة الظالمين، ويجعلهم يعملون لغد أفضل لمحيطهم، بدافع محبة الله وطاعته. أما حديثي الى إخوتي المسيحيين في هذا الوطن المعذب، المفتوح على القهر والفقر، فحديث المحب المقدر العارف بما يمكن للمسيحي أن يؤديه من دور في هذا الشرق”.
وتابع المرتضى: “أفهم المسيحية إنتماء إلى المسيح الذي يستطيع أن يحدق في وجه الله ولا يخجل، لأن أحدا من البشر لم يستطع أن ينسب إليه خطيئة. ولعله من القلة الذي نعرف كلماتهم، ولا نعرف مسافة بينهم وبينها… (المطران جورج خضر). أعرف ذلك المسيح وأعرف ما يمكن للشخص الذي يسكنه المسيح أن يفعل. كم من شخص سكنهم نوره واجتاحهم حبه، فوضعوا أنفسهم على طريق يؤهلهم، هم بدورهم، إذا ثبتوا فيه، أن ينظروا إلى وجهه ووجه الله، فلا يخجلوا يحفظون كلماته، ويترجمونها واقعا في حياتهم؛ من غير أن يتركوا مسافة بين أقواله وأفعالهم. هؤلاء يسكنهم نور المسيح وفي استطاعتهم أن يفعلوا معجزات بإسم معلمهم وببركته. في استطاعتهم أن يحدثوا شفاء ليس كمثله شفاء؛ في استطاعتهم أن يكونوا – على حد تعبير أحد الأصدقاء – “قنبلة ذرية من الخير”.
وقال: “أن تكون مسيحيا يعني أن تنتمي إلى خط المسيح، إلى درب الخير الذي انتهجه، إلى طريق المحبة التي ابتدعها، إلى سبيل الخلاص الذي أوجده. الخير والمحبة والخلاص هذه ليست فقط لك أنت الذي تعلن أنك مسيحي، أو لمحيطك الذي هو من لونك، بل، قبل هذا وذاك، لمحيطك الإنساني، بكل ألوانه وتشعباته، وأحيانا تعقيداته، الذي يشمل في ما يشمل ذلك الآخر وهؤلاء الأغيار. أن تنتمي إلى المسيح يعني أن تكون أداة المسيح في ما يريد ويتمنى ويشاء. ولم يكن المسيح أبدا ليرضى أن يكون لفئة دون أخرى، أو رجاء لجماعة دون جماعة؛ وهو القائل لتلاميذه: “اذهبوا إلى العالم أجمع، واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها” (إنجيل مرقس 16: 15) وهو الذي كان كما في النص القرآني الكريم، “آية للناس ورحمة” (سورة مريم، الآية 21)، أي لكل الناس، دونما استثناء، خلاصا لهم جميعهم، ورجاء لكلهم”.
وأردف: “إن المسيحي، الملتزم المسيح طريقا ومنهجا، مدعو لأن يكون، على وسع قدرته ومؤهلاته، في حضوره الاجتماعي والمهني ومكتسباته الثقافية والمادية، عامل محبة في محيطه، مولد خير، محقق خلاص لمن حوله، مجاهدا الظالم والفاسد والمستكبر والقاهر والفاسق، مناصرا المظلوم، ماسحا دمعة المسكين، معزيا المقهور، آخذا بيد الضعيف، أيا يكن ولأي فئة انتمى. إن المسيحي، الملتزم المسيح طريقا ومنهجا، مدعو لأن يرذل التعصب والغرائزية والتقوقع والخوف والكره والعنف والظلم والاستكبار والتشاؤم والأنانية والتعجرف والإنحلال، وإلا كان في خط آخر، المسيح منه براء، وعلى منهج آخر، يتجافى مع رسالة المعلم، ويتناقض، إلى حد الاصطدام، مع طرحه، ويلوث، إلى حد التشويه، مشيئته، ويؤلمه، ويظلمه، ويصلبه. إن المسيحي، الملتزم المسيح طريقا ومنهجا، مدعو لأن يكون تماما كما لو كان هو المعلم. ألا يستطيع الملتزم بالنهج أن يترجمه واقعا؟ ألا يمكننا، نحن البشر، أن نتبع هدى هامة ننتمي إلى منهجها؟ كيف أحب المسيح واتبعه، ولا أتصرف، على محدوديتي، مثلما كان ليتصرف هو، لو كان مكاني وفي ظروفي؟ أعصي ذلك علي؟ أما أنا هو المقصر والعاصي؟ ألا تنطبق علي الآيتان الكريمتان، القرآنية والإنجيلية: “يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون؟ كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون” (سورة الصف، الآية 2). “هذا الشعب يكرمني بشفتيه، وأما قلوبهم فبعيدة عني جدا. فهم باطلا يعبدونني.” (متى 15: 8-9). ألم يقل المسيح: “أنتم أحبائي إن فعلتم ما أوصيكم به”؟ ألا يعني ذلك أن حبه لأتباعه، وتاليا رضاه عنهم، مرهون بأن يعملوا بوصاياه؟”.
وسأل: “ماذا يعني ما ورد في الجزء الأول من الإرشاد الرسولي من أنه على الكثيرين منا أن يصلوا ويتوبوا ويهتدوا؟ هل يعني ذلك أننا قد نكون على بعض التدين أو الكثير منه، وقد نمارس دينيا، ولكن ينقصنا الإيمان الفاعل الذي يستدعي منا التوبة والاهتداء؟ ماذا نريد؟ أنريد أن يبقى كل منا ينتمي إلى قبيلة، لا لشيء إلا لكي يؤمن أحدنا حضورا له في مواجهة “الآخر”؟ أم نريد إيمانا ننفتح معه على “كلمة الله وروحه”، كما وصف القرآن المسيح، وعلى وصاياه وسيرته ورسالته التي تجعلنا على صلة مع الله، منفتحين عليه، ومن خلاله، على جميع اخوتنا في هذا الوطن؟”.
وأضاف: “يا أخوتي اللبنانيين مسلمين ومسيحيين، السلام على المسيح يوم ولد ويوم يبعث – أقولها على الطريقة القرآنية – وميلاده هو البشرى. فلنتأمل فيه وفي ميلاده، ولتكن فاتحة “عهد جديد” بيننا، يعي معها المسيحيون مفترضات انتمائهم إلى منهج المعلم، ليساعدوا المسلمين على أن يحيوا في نفوسهم روح المسيح التي يختزنها الإسلام بدوره. فالمسيحية والإسلام، وإن كانا على اختلاف حول تفاصيل تتعلق بذات المسيح وحيثيات مغادرته عالمنا الأرضي، إلا أنهما يتفقان، إلى حد بعيد، على المسيح الرسالة، والمسيح المنهج، والمسيح المشيئة، والمسيح الرؤيا. وما ينفعنا، نحن البشر، هو الذي تتفق المسيحية والإسلام عليه. أما سائر ما يختلفان فيه فلا يؤول علينا جدلنا بشأنه بأي نفع على صعيد حياتنا فوق هذه الأرض. فالمسيحية والإسلام إيمان واحد تجسد في دينين مختلفين. لا يرضى إيمانهما الواحد هذا أن يتصارعا، ولا يقبل إلا أن يتحاورا ويتعاونا ويتكاملا، على هدي ما ورد في هذه الآيات: يا أيها الناس، إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم (سورة الحجرات، الآية 13)؛ ولكل وجهة هو موليها، فاستبقوا الخيرات” (سورة البقرة، الآية 148)؛ “وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان” (سورة المائدة، الآية 2)”.
وتابع المرتضى: “والى أخوتي المسلمين أخاطب نفسي وأخاطبهم بأن علينا، لا سيما في لبنان، أن نحيا “إسلاما متمسحنا” يحيا قيم المسيح كلها وفق ما هو مختزن في حقيقته وجوهر تعاليمه. فيكون تلاقي المؤمنين من هنا ومن هناك على عيش الفضائل الدينية، وأولها المحبة أو الرحمة، إنبعاثا لهذه القيم، وإيقاظا لها من سباتها العميق الذي أراد لها الشر المزروع في هذه المنطقة أن تغط فيه لكي يسهل عليه خلق الفتن واستيلاد الحروب والمحن من اجل أن تخلو له الساحة فيفرض إستمرار وجوده فرضا وسلاحه وديدنه أن يبث في الأرض فسادا وفي العلاقة بين المسلمين والمسيحيين متاريس ونزاعات لا نهاية لها ولا طائل منها”.
وقال: “وبناء على ما تقدم -كما نقول في لغتنا القانونية- ادعونا جميعا مسلمين ومسيحيين أن نكون كما أرادنا المسيح. أن نكون، إلى آخر الحدود، رسل المحبة هذه” التي تصفح عن كل شيء وتصبر وتخدم ولا تحسد ولا تتباهى ولا تنتفخ في الكبرياء، ولا تسعى إلى منفعتها وتتحمل كل شيء . أن نكون اللطفاء، المستقيمين، الرحومين، المتواضعين، الرؤوفين، فيحمل كل منا الآخر على أن يحبه، وعلى أن يفرح به، فيجده بنعمة من الله أقرب الناس إليه، وتنتفي ظلمة الغربة عن العلاقة بيننا، فنتعاون على أن ينبعث فينا ما يختزنه إيماننا من قيم روحية سامية، مرتفعين سويا إلى فضاء المحبة والرحمة والعدل والسماح، إلى الآفاق التي أراد لنا المسيح أن نحلق فيها وأن نقطف من ثمراتها. فلنكن على هذا النحو الذي يريده المسيح لنساعد في نشأة الوطن الجديد الذي “الله وحده ربه إذا كان رب القلوب”.
وختم: “آيتان وردتا في القرآن دعاء، الأولى عن المسيح، وبلسانه، تقول: “السلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا”؛ والثانية، عن متعطشين للهدي والهدى، وبلسانهم، تقول: “ربنا، إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان، أن آمنوا بربكم، فآمنا، ربنا فاغفر لنا ذنوبنا، وكفر عنا سيئاتنا، وتوفنا مع الأبرار”، عسى، بحق ذكرى الميلاد، أن يقبل الدعاء، ويرفع البلاء، وتنفتح القلوب، وتستنير العقول، وتبنى الجسور”.
المصدر: بريد الموقع