لم يكد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الانتهاء من حفل توقيع ضم جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك، ومنطقتي زاباروجيا وخيرسون إلى دولة روسيا الاتحادية، حتى تصاعدت وتيرة الضربات العسكرية الأوكرانية المدعومة عسكرياً ومالياً من دول حلف الناتو ضد المصالح الاقتصادية والعسكرية الروسية.
في الجانب الاقتصادي، أثبتت التحقيقات الروسية تورط كل من أميركا وبريطانيا بتفجير خطي الغار الروسي «السيل الشمالي 1و2»، ما سبب بتعطيل تدفق الغاز الروسي صوب أوروبا، أما من جهة ثانية فقد أعلن الخبراء الروس أن واشنطن كانت على علم مسبق بالمخططات الأوكرانية الآيلة إلى تفجير جسر القرم «كيرتش» بوساطة شاحنة ملغمة، تلقت دعماً لوجيستياً واستخبارياً من دول أعضاء في حلف الناتو تم تفجيرها بالتزامن مع مرور قطار محمّل بصهاريج الوقود.
لم يعد جائزاً التستر عن إخفاق القيادة الروسية في تحقيق أهدافها المعلنة من العملية العسكرية في أوكرانيا، ولا يمكن مجافاة حقيقة إلحاق الخسائر الفادحة بالقوات الروسية في أوكرانيا، ولا غلو بالقول إن سوء تقدير أجهزة المخابرات الروسية أو التقصير في وضع وتنفيذ خطط محكمة لمثل هذه العملية الروسية في أوكرانيا، أدى إلى خسارة مساحات جغرافية كبيرة كانت أعلنت روسيا سابقاً السيطرة عليها وتحريرها وآخرها منطقة «ليمان» الواقعة ضمن نطاق دونيتسك.
من الواضح أن الضرر المادي من تفجير جسر القرم، أقل بكثير من كونه ضربة لسمعة السلطات الروسية وللرئيس بوتين شخصياً، وخصوصاً بعد الوعد الذي قطعه على الملأ بحماية الأراضي الروسية التي أعلن ضمها وتحريرها، بما فيها جزيرة القرم التي ضمها إلى روسيا الاتحادية في العام 2014 وأطلق على جسر القرم لقب الخط الأحمر.
أمام ما تقدم، نستطيع القول إن العملية العسكرية في أوكرانيا قد انتقلت إلى ما يوصف بالحرب المدمرة، وبلا ضوابط متجاوزة كل القواعد، ومعها يتعذر التكهن بتحولاتها وبنتائجها، ليس بين روسيا وأوكرانيا فحسب، بل بين روسيا ودول حلف الناتو مجتمعة وبقيادة البنتاغون الأميركي.
أصبح واضحاً من خلال الدعم الأميركي الأوروبي اللامحدود لأوكرانيا، أن واشنطن كانت تخطط لأعمال إرهابية واسعة النطاق في روسيا من شأنها، زعزعة أمن روسيا الداخلي، ما يعطي موسكو ذريعة لشن ضربة نووية لتوريطها وإثارة الرأي العالمي ضدها، ويبقى السؤال: هل يلجأ بوتين إلى مثل العمل النووي، وخصوصاً أن كل روسيا تطالب بوتين برد فوري على تفجير جسر القرم الذي اعتبره بوتين خطاً أحمر، لكن من يعرف الرئيس فلاديمير بوتين جيداً يجزم بأنه لن يتورط بضربة نووية روسية، وأن الرد الروسي سيقتصر على مراكز القرار والإدارة الأوكرانية.
الرئيس بوتين في حالة إعادة ترتيب أوراقه المتعددة عقب حادث تفجير جسر القرم، و لن يكون أمامه خيار سوى تصعيد القصف العسكري التقليدي، وليس النووي، لكن بشكل متدرج ومدروس بدقة وعناية وذلك حفاظاً على صورته الداخلية واستعادة لهيبة روسيا التي اهتزت بفعل التراجع الميداني وتفجير جسر القرم.
من الأوراق التي تملكها روسيا وهي تعتبر أوراقاً رابحة عامل الاقتصاد، ولطالما بقي الاقتصاد والعملة الروسية بمعدلاتهما الطبيعية التي تضمن بقاء مستوى معيشة المواطن الروسي، فهذا يعتبر إنجازاً بالغ الأهمية ويمنع الغرب وأميركا من النفاذ إلى الداخل والعبث بالأمن الروسي، إلا من خلال تنفيذ عمليات إرهابية كما حصل في حادثة اغتيال ابنة دوغين في موسكو.
لعل الخطأ الإستراتيجي الذي أوقع روسيا في فخ التراجع في الميدان العسكري، هو المبالغة بالقدرات الروسية على إنهاء العملية العسكرية في أوكرانيا بزمن قياسي أسوة بما حصل في جورجيا، والمراهنة الخاطئة على سرعة تأثر الاقتصاد الأوروبي سلباً جراء النقص في إمدادات الغاز الروسي وارتفاع أسعاره، واعتباره عاملاً يؤدي حتماً لدفع أوروبا إلى ممارسة الضغط على الإدارة الأميركية من أجل الشروع في التفاوض مع بوتين تجنباً لكوارث اقتصادية وأمنية قد تصيب أوروبا ولا يمكن التنبؤ بنتائجها.
لكن أوروبا ظهرت بحالة العجز والخنوع التام للإرادة الأميركية، وذهبت بانصياعها للموقف الأميركي إلى حد الانتحار البطيء، رغم تأثر اقتصادها وانهيار سوق الأسهم فيها وبدت أوروبا كأنها تطلق النار على نفسها.
إدارة الرئيس جو بايدن الأميركية تعتقد أنها تحقق انتصارات على روسيا وهي تستميت لتحقيق ذلك لبقاء نظامها الليبرالي الأحادي على قيد الحياة، لكن الأزمات الداخلية الأميركية والعالمية لا تجعل الولايات المتحدة في وضع مريح، ولو كانت تكسب في أوكرانيا مؤقتاً، إضافة إلى عوامل دولية كثيرة لا تصب في مصلحة الولايات المتحدة وفي مقدمها أزمة الطاقة، ويوشك قرار تحالف «أوبيك +» الأخير بخفض إنتاج النفط مليوني برميل إعتباراً من تشرين الثاني المقبل، إدخال الغرب في صدمة نفطية ثانية بعد الصدمة النفطية الأولى قبل 49 عاماً عقب حرب تشرين 1973.
إن قرار «أوبيك +» أوقع أميركا في مأزق كبير، وهذا ما دفع بالرئيس الأميركي جو بايدن إلى مهاجمة قرار «أوبك+» القاضي بخفض الإنتاج متهماً الدول المشاركة وتحديداً السعودية بالوقوف إلى جانب الرئيس بوتين، وهذا الأمر أنهى عملياً مفعول القمم التي عقدها بايدن في السعودية في تموز الماضي، وأعاد طرح السؤال حول مستقبل العلاقات الأميركية الخليجية وحتى مصير الحلف التاريخي بين السعودية وأميركا.
ومما يضاعف من سلبيات قرار «أوبك+» أنه أتى قبل شهر من الانتخابات النصفية في الولايات المتحدة، التي يفترض أن تحدد اتجاهات الكونغرس المقبل، ومن المتوقع أن ينعكس سلبياً لجهة انخفاض نسبة تأييد الديمقراطيين وتعرضهم للخسارة، وبالتالي فإن سيطرة الجمهوريين على الكونغرس ستكون محققة لا محالة.
أطراف الصراع المشاركة في الحرب الأوكرانية ضد روسيا تبدو مأزومة اقتصادياً وسياسياً، وفي حالة عض الأصابع بانتظار من يصرخ أولاً، ورغم أن مبادرة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بإنشاء تحالف أوروبي تحت مسمى المجموعة السياسية الأوروبية التي بلغت 44 ضد روسيا، تبدو أوروبا أقرب إلى الصراخ أولاً نتيجة تضرر عموم الاقتصاد الأوروبي، والذي سيترك آثاراً أكثر فتكاً من مفعول السلاح النووي، وهنا يمكن للاقتصاد أن بكون عاملاً حاسماً وأن يرتقي إلى مرتبة الاقتصاد النووي.
السؤال البديهي: هل التأزمات على جانبي الصراع ستعجل بالدفع نحو تسوية سياسية للنزاع الأوكراني، أم إن الأزمة ذاهبة نحو شوط أبعد وأعنف عسكرياً واقتصادياً، مع العلم أن المجريات تبدو أقرب إلى الخيار الثاني، خصوصاً بعد اتهام بوتين بشكل مباشر لأجهزة الاستخبارات الأوكرانية بالوقوف خلف تفجير جسر القرم واصفاً التفجير بالعمل الإرهابي.
في خطابه الأخير قال فلاديمير بوتين: إن القوة هي التي ستحدد الواقع الجيوسياسي في المستقبل، وأنه لا فائدة من عالم لا تكون روسيا القوية عسكرياً واقتصادياً موجودة فيه.