فعلتها بيلوسي رغم كل شيء. حطّت رئيسة مجلس النواب الأميركي في تايبيه، كأول زيارة بهذا المستوى منذ عام 1997، رغم ما قيل عن معارضة الرئيس جو بايدن الضمنية لهذه الخطوة التي تحمل استفزازاً كبيراً للصين. استفزازٌ في غير وقته، مع خوض بلادها مع حلفائها الأوروبيين حرباً غير مباشرة مع روسيا في اوكرانيا، حرباً مكلفة جداً، لا زالوا يبحثون عن وسائل للتخفيف من تأثير تداعياتها (موضوع الغاز والنفط على رأسها)، وبدائل للصمود، و”إلا فإن موسكو تكون قد حققت النصر الاستراتيجي الذي سيشكل تهديداً لاستقرار الاتحاد الأوروبي بأكمله”، بحسب الكاتب في صحيفة “نيويورك تايمز” توماس فريدمان.
ما الذي حققته بيلوسي، التي تشغل ثالث أعلى منصب في الإدارة الأميركية بعد الرئيس ونائبه من هذه الزيارة التي بقي حدوثها غير مؤكداً حتى اللحظات الأخيرة؟ في هذا السياق، يرى فريدمان أن زيارة بيلوسي “لن تأتي بشيء جديد ولن تجعل تايوان أكثر أمناً أو ازدهاراً”، واصفاً اياها بالـ “رمزية البحتة”. التوصيف الأخير يبدو منطقياً لأسباب عدة، أولها استبعاد نية واشنطن شنّ حرب مع بكين، لأنه ببساطة وبحسب فريدمان فإن “أبجديات الجغرافيا السياسية تقول إنك لا تحاول شنّ حرب على جبهتين مع القوتين العظميين الآخرين في نفس الوقت”.
من جهتها، الصين حتى اللحظة وبالرغم من التحذيرات العالية النبرة التي اطلقتها قبل الزيارة وبعدها، فإنه من الواضح عدم وجود نية لديها، في الوقت الحالي اقله، على الانجرار إلى مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة وهو ما يعزوه بعض الخبراء إلى “حذر من إثارة هلع جيرانها لعدم دفعهم إلى الارتماء بحضن واشنطن أكثر بالتالي التوحد ضدها في أعمال عدائية”، مضيفين أن “الاستجابة الصينية ستتمثل بخطوات استراتيجية تسرّع إنهاء مسألة تايوان خلال سنوات”، خصوصاً أن “الصين تشتري الوقت لإكمال صعودها السلمي وتجييره لإتمام قدرتها العسكرية”، وهو ما يفسر سياسة الحياد التي تمارسها الصين تجاه العديد من القضايا في العالم والاقليم.
أما بالنسبة للوضع القائم بين الصين وتايوان، فإن الأخيرة قطعاً دون نية واشنطن الدخول في مواجهة، تبقى مكبلة وتقتصر قدرتها على القيام ببعض الاستفزازات، كاستضافة بيلوسي، التي يرى فريدمان أنه كان عليها أن تطلب منها “ألا تأتي في هذا الوقت”. إضافة إلى تلقي بعض المساعدات العسكرية من واشنطن من وقت لآخر. وهنا نلفت إلى أن الزيارة انعكست سلباً على تايوان، في ما يتعلق بالجانب الاقتصادي، إذ أن الصين تعد أكبر شريك تجاري لها، بحيث سجل التبادل التجاري بينهما ارتفاعاً بنسبة 26 في المئة عام 2021، ليصل إلى 328 مليار دولار. واثر وصول بيلوسي، فرضت بيكين عقوبات تمثلت بتعليق إدارة الجمارك استيراد بعض أنواع الفاكهة والأسماك من تايوان وتصدير الرمال الطبيعية إلى الجزيرة.
وهي التي قامت عام 2018 ، بتصعيد ضغوطها على الشركات الدولية، وأجبرتها على إدراج تايوان كجزء من الصين على مواقعها على الإنترنت، وهددت بمنعها من ممارسة الأعمال التجارية في بكين إذا لم تمتثل.
أما عسكرياً، فمن المؤكد أن تايوان ستشهد استنفاراً وتوتراً عسكرياً عالياً هذه الفترة، فقد أعلنت قيادة المنطقة الشرقية للجيش الصيني عقب مغادرة بيلوسي، أنها نفذت ضربات دقيقة بذخيرة حية طويلة المدى ضد أهداف في شرق مضيق تايوان خلال مناورة بمحيط الجزيرة. وبدأت التدريبات الصينية بالذخيرة الحية في محيط تايوان في أكبر مناورة يتم تنظيمها على الإطلاق في محيط الجزيرة.
من الواضح أن النزعة الاستقلالية تتملك الرئيسة التايوانية تساي إنغ ون إلى حد كبير، جعلها تنجر إلى هذا التصعيد، في توقيت خاطئ لن يحقق لها شيئاً مما تسعى إليه، وهي التي قامت عام 2016 بالاتصال بالرئيس الأميركي آنذاك دونالد ترامب، في مكالمة وُصفت بالمثيرة للجدل، أعقبها عام 2018 فرض ترامب رسوماً جمركية بنسبة 25% على قائمة بنحو 1300 منتج صيني.
هل تدرك تساي أن بلدها هو “مجرد أداة تستخدمها الولايات المتحدة لتقويض أو ازعاج الصين” وهو ما تعلمه الأخيرة وتصرّح به علناً؟ وبعد هذه الجولة الاستفزازية وما تبعه من تداعيات على بلادها، هل ستكمل في المسار نفسه أم تلجأ إلى التهدئة، ضمن مبدأ “دولة واحدة ونظامان” الذي انشئ في هونغ كونغ في الثمانينات بمباركة صينية كعرض لإغراء التايوانيين بالعودة إلى البر الرئيسي.
المصدر: موقع المنار