تتوالى محاولات السطو الأميركي الأوروبي على منابع الطاقة الكامنة في منطقتنا العربية وفي العالم كمصدر بديل عن الطاقة الروسية، خصوصاً بعد تخفيض مستوى توريد الغاز الروسي باتجاه دول الاتحاد الأوروبي، التي التزمت تنفيذ العقوبات الأميركية المفروضة على روسيا.
في 15 حزيران المنصرم، وقّعت مصر والعدو الإسرائيلي والاتحاد الأوروبي مذكرة تفاهم في القاهرة تهدف إلى تصدير الغاز إلى أوروبا، وجاء ذلك خلال زيارة رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لايين، إلى القاهرة للمشاركة في اجتماع منتدى غاز شرق المتوسط الذي تأسس العام 2019، ويأتي ذلك في وقت يسعى فيه الاتحاد الأوروبي إلى تنويع مصادره من الغاز، وبهدف التعاون في مجال نقل الغاز الطبيعي من الكيان الصهيوني إلى أوروبا بعد تسييله في المحطات المصرية.
مما لا شك فيه أن الإدارة الأميركية تسعى جاهدة لإعطاء العدو الإسرائيلي صفة الريادة لمنتدى غاز الشرق الأوسط، وذلك لإبقاء مصادر الطاقة في المنطقة تحت السيطرة الإسرائيلية وأيضاً لتسهيل عملية التطبيع الاقتصادي والسياسي العربي مع هذا الكيان الغاصب.
لم يعد خافياً أن لبنان يرزح تحت وطأة أزمة اقتصادية مالية حادة لم يشهد مثيلاً لها منذ تأسيسه، وكل ذلك نتيجة الضغط المتواصل والابتزاز الفاضح الذي تمارسه الإدارة الأميركية على المسؤولين اللبنانيين، لإجبارهم على توقيع اتفاق ترسيم الحدود البحرية، وبالشكل الذي يتناسب مع مصالح العدو الصهيوني.
دخل لبنان في مفاوضات غير مباشرة مع العدو الإسرائيلي لتثبيت الخط 29 الذي يحدد المنطقة البحرية للبنان، انطلاقاً مما نصت عليه منظمة UNCLOS بالإضافة إلى وثائق مكتب UKHO البريطاني المتخصص بفض نزاعات الحدود البحرية بين الدول.
الخط 29 يقع في منتصف حقل «كاريش» المتنازع عليه والذي يختزن كميات هائلة من الغاز نصفها من حق لبنان، إلا أن الوسيط الأميركي غير النزيه أموس هوكشتاين ومن خلفه العدو الصهيوني، أراد السطو على كامل الحقل واغتصاب جزء كبير من بلوك رقم 8 اللبناني لمصلحة الكيان الصهيوني.
آموس هوكشتاين والسفيرة الأميركية في لبنان دوروثي شيا وبتوجيه من الإدارة الأميركية مارسوا أقصى درجات الابتزاز على المسؤولين اللبنانيين، تارة بفرض عقوبات على أموالهم وأموال عائلاتهم، وتارة أخرى بفتح ملفات فسادهم أمام الملأ.
معظم أعضاء المنظومة الحاكمة في لبنان، متورطون بالفساد وبنهب أموال الدولة اللبنانية وبتنفيذ عمليات تبييض لأموال مشبوهة المصدر، وبعلم وبحماية الإدارة الأميركية بالاشتراك مع معظم الدول الأوروبية المدعية محاربة الفساد.
أعضاء منظومة الفساد في لبنان رضخوا للضغوط الأميركية وقبلوا التنازل عن حق لبنان الكامن في الخط 29 وبالتالي عن حصة النصف من حقل كاريش لمصلحة العدو الصهيوني، خوفاً من عقوبات أميركية تحتجز أموالهم المودعة في مصارف أميركية في خطوة أقل ما يقال فيها إنها الخيانة العظمى بحق الوطن وبحق أجياله.
لبنان البلد العربي الوحيد الذي استطاع إلحاق هزيمة نكراء بالعدو الصهيوني، ومع ذلك تراه اليوم يتعامل مع الأميركي بمنطق المهزوم، والسبب هو أن منظومة الفساد المتحكمة في مفاصل الدولة اللبنانية مصابة برهاب العقوبات الأميركية.
ما من حاكم فاسد في الكون يؤتمن على مصير شعب أو على حقوق وطن وحق الأجيال، لأن الحاكم الفاسد مدمن على المقايضة وعلى بيع الضمير وشراء الذمم وإبرام الصفقات المشبوهة وارتكاب جرم الخيانة العظمى فقط لإرضاء مشغليه.
في بادئ الأمر أعلن حزب الله الوقوف خلف قرار الدولة اللبنانية فيما خص ترسيم الحدود البحرية وحماية ثروة لبنان النفطية، وبما أن لبنان تحكمه منظومة فاسدة لا يمكن الوثوق بها لن تتورع عن التفريط بثروته البحرية من أجل الحفاظ على مكاسب شخصية وإرضاء للإدارة الأميركية، ولو على حساب شعب يعيش حالة من القهر والحرمان، قررت المقاومة اللبنانية أخذ المبادرة في الدفاع عن ثروة لبنان وحدوده البحرية، مثلما دافعت عن تراب لبنان وكما عهدناها منذ أربعين عاماً.
الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله في خطابه الأخير، أعلن بأن حزب الله يمتلك من القدرات والإمكانيات ما يجعله قادراً على منع العدو الإسرائيلي من التنقيب في حقل كاريش، مؤكداً أن قيادة الحزب لن تقف مكتوفة الأيدي إذا قرر العدو الإسرائيلي البدء باستخراج الغاز، داعياً الشركات الأجنبية اليونانية وغيرها إلى الانسحاب «سريعاً وفوراً وإلا فهي تتحمل المسؤولية الكاملة من الآن فصاعداً عما قد يلحق بهذه السفينة مادياً وبشرياً».
وتنفيذاً لقول نصر الله أصدرت المقاومة اللبنانية بياناً رسمياً لم يتعد خمسين كلمة، حسمت فيه الأمر معلنة عن القيام بإرسال ثلاث مسيرات ومن أنواع مختلفة وغير مسلحة في مهمة «استطلاعية» ومحددة فوق حقل كاريش كرسالة واضحة تعبر عن تصميم المقاومة في الدفاع عن حقوق لبنان البحرية كاملة.
بيان حزب الله حول تنفيذ عملية المسيرات فوق منطقة حقل كاريش في عرض البحر، قلب المشهد وأعاد ضبط بوصلة الخط 29 وثبت المعادلة التي أعلنها نصر الله «لا غاز عندنا لا غاز عندكم».
إذاً المقاومة اللبنانية رفعت الكارت الأصفر في ملعب «كاريش» بوجه العدو الإسرائيلي أولاً وثانياً بوجه الدول مالكة منصة استخراج الغاز، وذلك كرسالة تحذير من استكمال العمل في استخراج الغاز من المنطقة البحرية المتنازع عليها في وقت يستمر الحصار الأميركي المفروض على لبنان ومنعه من استخراج ثروته المدفونة في عمق البحر.
لا نغالي إذا قلنا إن كارت حزب الله الأصفر رفع أيضاً بوجه كل من تسول نفسه في الداخل اللبناني، التفريط بحقوق لبنان البحرية أو البرية وخاصة أولئك أعضاء منظومة الفساد المتحكمة بمفاصل الدولة وبقرارها والتي ما فتئت الارتهان للخارج.
«أنجزت المهمة المطلوبة وكذلك وصلت الرسالة»،
بهذه الجملة ختم حزب الله بيانه عقب تنفيذ المهمة الاستطلاعية للمسيرات الثلاث فوق حقل «كاريش»، وبذلك نستطيع القول إن مضمون بيان حزب الله أعاد التأكيد أن الحزب غير ملتزم بالصياغات التي قدمتها الحكومة اللبنانية مؤخراً للوسيط الأميركي آموس هوكشتاين، أو الاكتفاء بترسيم حدودي يضمن كامل الخط الحدودي 23 إضافة إلى جزء من بلوك رقم 8 جنوب الخط الـ23، في مقابل تخلي لبنان عن أي مطالبة مستقبلية بالخط 29 لأن من شأن ذلك وضع لبنان في موقع المتنازل عن حقه في حقل كاريش».
إن مسيرات المقاومة اللبنانية والبيان الصادر عنها أكدا أن المهمة المطلوبة أنجزت، وكذلك أوصلت الرسالة لكل من يعنيهم الأمر في الداخل اللبناني وخارجه، ومفادها عدم القبول بالتخلي عن الخط 29 ولا مساومة على حق لبنان، مهما كلف الأمر وأن المرحلة ما بعد المسيرات لن تكون كما قبلها.
لا غلو بالقول إن قيادة المقاومة اللبنانية، وبإدارة عالية عن علم ودراية، وبحنكة متناهية، تعتبر الجهة الوحيدة الصالحة والتي يمكن إيلاؤها كل الثقة في الدفاع عن لبنان وعن كامل حقوقه وحمايته من أطماع العدو الصهيوني.