بقلم د. حسن أحمد حسن
مِنْ حق المتابع المهتم بتداعيات الحرب المفروضة على المنطقة أن يتساءل: لماذا يكذُّبُ البريطانيُّ البريطانيَّ، والتركي ُّ التركيِّ والسعوديُّ السعوديَّ، والأمريكي يكذبهم معاً، والإسرائيلي يصفق للجميع حيناً، ويهاجم الجميعَ حيناً آخر؟ وهل الاحتكام للعقل الموضوعي يسمح بالتفكير ولو للحظة واحدة بأن رعاة الإرهاب وحماته قد يقدمون بشكل جاد على محاربته والقضاء عليه؟ ومتى كانت أفعى الكوبرا تفكر بقتل فراخها؟ وإذا فكرت بذلك جراء حشرها في وكر مسدود الطرف هل هناك ما يضمن قدرتها على قتل تلك الفراخ بعد أن تتحول إلى ثعابين مجلجلة تنشر سمومها في كل مكان تصله، معتمدة في ذلك على قدرة استثنائية كفيلة بتبديل الجلد وتمكينها من التخفي في أدغال تختلط فيها النباتات السامة بأزاهير “ربيع” كاذب تبين أنه صقيع وحرائق متنقلة قد لا تستطيع قوة في الكون التحكم بألسنة لهيبها إذا خرجت عن السيطرة؟؟
تساؤلات مشروعة وموضوعية تفرض ذاتها لكل من يتابع تداعيات الحرب المركبة والممنهجة المفروضة على المنطقة والعالم عبر البوابة السورية، فغالبية الأطراف الدائرة في فلك واشنطن تتحشد عسكرياً في المنطقة، وفي الوقت نفسه يطلق مسؤولوها تصريحات قطعية تؤكد أنهم ضد التدخل العسكري المباشر، والأنموذج الأبرز بريطانيا التي صوت برلمانها بعدم الاشتراك في الحرب ضد الدولة السورية عندما كانت تلوح واشنطن بالخيار العسكري منذ ثلاثة أعوام، وهاهم المسؤولون البريطانيون اليوم يعترفون بوجود أربعة آلاف من جنودهم، فلماذا هذا التحشيد والتحشد إذن؟ وما هي أهداف النفخ في النار تحت الرماد عندما ينبري وزير الخارجية البريطاني للتصريح بأن بلاده تبحث مرة أخرى في خيارات التدخل العسكري في سورية، مشيراً إلى أن أي عمل يجب أن يكون ضمن تحرك دولي يشمل الولايات المتحدة، ويوضح إن ذلك عمل من غير المرجح أن يحدث قريبا، وفي اليوم ذاته ينفي المتحدث باسم رئاسة الوزراء البريطانية وجود أي خطط لبلاده للتدخل العسكري في سورية، ويقول للصحفيين: “لا توجد خطط لعمل عسكري…. نحن نعمل مع المجتمع الدولي للنظر في كيفية وضع نهاية للصراع”، مشيراً إلى أن هناك مجموعة من الخيارات الأخرى المتاحة، والأمر ذاته ينسحب على بقية المنضوين في المشروع التفتيتي بزعامة واشنطن التي وصل النفاق بها إلى درجة التورط المباشر والعلني في قصف مواقع للجيش العربي السوري في جبل الثردة بدير الزور لضمان تقدم داعش برياً، والاعتذار الأقبح من ذنب بأن القصف كان خطأ، والتسريب من داخل مطبخ السياسة الأمريكي بأن مفاصل صنع القرار الأمريكية منقسمة على بعضها وكأننا نتحدث عن دولة ناشئة أو من النسق العاشر وليس عن دولة عظمى.
توزيع الأدوار بين التضليل الإعلامي والحرب النفسية:
كل ما تم ترويجه في السنوات الأولى للحرب عن مطالب محقة وحراك سلمي ثبت بطلانه، وتأكد لكل من يريد أن يحتكم للعقل إنها حرب إرادات تتجاوز الجغرافيا السورية وتستهدف كل من لا يذعن للمشيئة الأمريكية، وكل من يقف في وجه عربدات تل أبيب، وثبت أيضاً وبالدلائل القطعية أن اجتياح مصر وليبيا وتونس كان مجرد مقدمة لتهيئة بيئة إستراتيجية مطلوبة لضمان استهداف سورية بأقل تكلفة ممكنة، واعتمادها منصة لإكمال المشروع التفتيتي لجميع دول المنطقة إرضاء لحكام تل أبيب، ومع استمرارية الصمود السوري وارتفاع مستوياته بدعم الأصدقاء وفي مقدمتهم حزب الله وإيران وروسيا بدأت تتضح معالم انكسارات المشروع التفتيتي، واتضح عجز جحافل الإرهاب المجمعة من كل أصقاع الكون عن أخذ سورية عسكرياً، فصدرت الأوامر بتصعيد الحرب الدبلوماسية والنفسية للتعويض عن إخفاقات الميدان، ولا يكاد يخلو موقف علني لدول الظلامية الجديدة أو تصريح لمسؤول رسمي في تلك الدول من جانب يخدم الحرب النفسية التي تستهدف أمرين متناقضين: أولهما رفع الروح المعنوية المنهارة في صفوف المجاميع الإرهابية، والتغطية على تآكل إرادة القتال لدى أولئك القتلة وإبقاؤهم وقوداً وحطباً لهذه الحرب، والثاني: التأثير على الروح المعنوية لدى المقاتل السوري والمواطن السوري، وعشاق نهج المقاومة، ومحاولة زرع اليأس والتقليل من أهمية إنجازات الجيش والقوى الرديفة، والعمل بكل السبل لشق عصا التكامل التي تمسك بها سورية وأصدقاؤها بشكل أو بآخر.
وباختصار شديد يمكن القول : إن المشرفين على الحرب النفسية ضمن الحرب المركبة المفروضة على محور المقاومة يعملون بمهنية عالية واحترافية علمية دقيقة، فهم يضعون في حساباتهم دائماً أن يتم تضمين أي موقف أو تصريح جزءاً من الحقيقة التي يتم تجييرها لخدمة الهدف المخطط، وعلى سبيل المثال لا الحصر: عندما يؤمر السعودي بالحديث عن نية بلاده تسليح جيوش الإرهاب بأسلحة نوعية جديدة، أو تسريب أخبار بعبور مئات وربما آلاف الإرهابيين الجدد بأسلحتهم للحدود التركية، فالهدف واضح وهو يصب في إطار ما ذكر سابقاً من وقف انهيار الروح المعنوية للمجاميع المسلحة والتأثير سلباً على معنويات المقاومين في ميادين القتال وفي الساحات الخلفية، أي على الشعب السوري ومن يقف معه، وقد تبين عبر سنوات هذه الحرب الممتدة أنه عندما يبدأ الحديث بنية عن التسليح فهذا يعني أن عملية التسليح قد أنجزت والمقاتل العربي السوري وبقية القوى الرديفة أضحوا على يقين أن ما يتم ترهيبهم بحدوثه قد واجهوه في ساحات القتال وأبطلوا مفعوله وسحقوا مستخدميه وأغاظوا أسيادهم العاجزين عن إنجاز ما يمكن البناء عليه، والعاجزين عن الاعتراف بهذا العجز، وبالتالي إمكانية تحقيق الأهداف المرسومة للحرب النفسية المعادية في حدودها الدنيا، حتى وإن تم تقاسم المهام وتوزيع الأدوار، كما هي الحال عندما يصرح هذا المسؤول الأطلسي أو غيره بأن اجتماعا سريا لإدارة هذا الرئيس أو حكومة تلك الدولة قد ناقشت جميع الخيارات بما فيها الخيار العسكري، ويظهر تسريب معلومات أو تصريح أو لمسؤول آخر بالحرص الأطلسي على وحدة سورية جغرافياً وبشرياً، وتمكين شعبها من التعبير عن إرادته والدخول بتفاصيل العملية السياسية وكأن رغبتهم قدر لا مفر منه، أو كأنهم مخولون بالتفكير عن الشعب السوري وتجسيد إرادته وفق ما يخدم مصالحهم ويتناقض بالضرورة مع مصلحة الشعب السوري ونهج المقاومة، وما بين هذا التصريح وذاك الموقف يتم تسريب أخبار عن أعداد القوات البريطانية وغيرها، أو الحديث عن زيادة جنود الأمريكيين وتجهيز مطار عسكري أو أكثر وما شابه ذلك مما يشي بأن العدوان العسكري الصهيو أمريكي المباشر بين عشية وضحاها، وكل ما يتم ذكره لا يكون في إطار تسريب خبر أو التفكير باتخاذ موقف بل الإفصاح عن جزء من الحقيقة التي يدركها السوريون وأصدقاؤهم، ويدركون في الوقت نفسه أن رعاة هذه الحرب لا يتورعون عن اتخاذ أية خطوة تساعدهم على تحقيق هدفهم الاستراتيجي المتمثل بتفتيت سورية تمهيدا لتفتيت المنطقة، وأنهم استخدموا كل ما يمكن استخدامه، لكنهم يقفون كعُمُدٍ مُمَدَّدَةٍ أمام الإجابة على تساؤلات حتمية، وماذا بعد الخطوة الأولى في التورط المباشر؟ ومن الذي يستطيع تحمل تداعيات ألسنة اللهب، وكم هي التكلفة مقابل المردودية، وبما أن الأجوبة على أي من هذه التساؤلات تفوق طاقة من يقود قاطرة المشروع الصهيوني العالمي تصبح أهداف الحرب النفسية المعادية مفضوحة، ويظهر التناقض والنفاق الذي يسمونه براغماتية، وتتبلور أكثر فأكثر حقائق جديدة فرضها صمود سورية بدعم أصدقائها وفي مقدمتهم حزب الله وتكامل أداء المقاومة مع جيش نظامي، وعلى المشككين في دقة هذا القول الرجوع إلى المناقشات الجدية التي تدور في مراكز الدراسات الإستراتيجية الصهيونية، وما يصرح به جنرالات ذاك الكيان مؤكدين أن سماحة الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله قد نجح في تحويل “حزب الله” إلى المنظمة الأقوى عالميًا من حيث القدرات العسكريّة وتنامي عزيمته وجهوده القتاليّة وتعزيز ترسانته الصاروخيّة.
من كل ما تقدم ومن خلال متابعة مواقف أطراف هذه الحرب المفروضة يمكن استخلاص استنتاجات كثيرة ومتعددة المضامين، واكتفي هنا بذكر بعضها، ومنها:
1- أي خبر يتم نسبه لمسؤول أمني أو عسكري أو سياسي رفيع المستوى ورفض الإفصاح عن اسمه يكون الخبر هو تسويق الخبر لا مضمونه، وغالباً ما تكون الغاية من تسويق الخبر جزء من الحرب النفسية التي تستند إلى بعض الحقيقة ويتم تفصيل المعاني الإضافية والرسائل المطلوب إيصالها بإعطاء هالة ما على خبر يتم تسريبه ونسبه إلى مصدر مجهول لكنه رفيع المستوى.
2- معظم تصريحات ومواقف من يشغلون مناصب عليا في المنظمة الدولية مكرسة للغاية ذاتها، وعلى سبيل المثال لا الحصر: تصريحات بان كيمون و ستيفان ديمستورا الذي أعرب عن صدمته وقلقه بسبب إطلاق “المعارضة المسلحة” صواريخ عشوائية غرب حلب خلال اليومين الماضيين، وأن تقارير موثقة نقلاً عن مصادر ميدانية تشير إلى أن عشرات الضحايا من المدنيين لقوا مصرعهم في غرب حلب بما في ذلك عدد من الأطفال، وجرح المئات بسبب الهجمات القاسية والعشوائية من قبل جماعات المعارضة المسلحة… فمثل هذا الكلام سعي مفضوح لتبرئة القتلة الإرهابيين من كل ما ارتكبوه سابقاً وكأنها المرة الأولى التي يمطرون فيها حلب وبقية المدن السورية بالقذائف العشوائية التي تستهدف الأطفال والشيوخ والنساء، ناهيك عن عشرات التصريحات التي تصب في بؤرة واحدة وهي الحرص على إخراج القتلة الإرهابيين معززين مكرمين من أحياء حلب الشرقية.
3- تهويل أي عمل تنفذه المجاميع الإرهابية المسلحة، وكأن توازن القوى ميدانياً كان متوقفاً عليه، وادعاء أسر جنود من الجيش العربي السوري أو المقاومة، وهنا أود التأكيد على نقطة مهمة وهي : أي حديث أو خبر عن تقدم ميداني في هذه المنطقة أو تلك، أو عن خسائر يلحقونها في صفوف الجيش والقوى الرديفة، أو أسر جنود ومقاومين هو بالضرورة عار عن الصحة جملة وتفصيلاً ما لم يترافق بتصوير مباشر، لأن جميع التنظيمات الإرهابية تمتلك متطلبات التصوير والبث المباشر منذ آذار 2011م. إن لم يكن قبل ذلك التاريخ، وفي الوقت نفسه كل حديث عن استهداف الجيش والقوى الرديفة للمدنيين و البنى التحتية في أية جبهة هو عار عن الصحة إن لم تنقل الصور مباشرة عبر الإمبراطوريات الإعلامية الشريكة في هذه الحرب المركبة، والغاية طبعا شيطنة الجيش والمقاومة وتأليب الرأي العام ضدهما، فضلا عن محاولة خلق بيئة مطلوبة لإشعال فتيل حرب طائفية، وكل هذا جزء من الحرب النفسية التي هي بدورها جزء من هذه الحرب المزمنة والمكرسة لاستهداف المقاومة ثقافة ونهجا وأنموذج حياة ثبتت جدواه وفاعليته.
هذا غيض من فيض من مظاهر الحرب النفسية الممنهجة التي يعتمدها المايسترو الأمريكي في حربه على المنطقة وشعوبها عبر استخدام مصطلح جديد ” الحرب بالآخر” فجميع شعوب المنطقة مستهدفة، وما يتم هو دفع متعمد لهذه الشعوب لتفني بعضها بعضاً بما يعزز أمن الكيان الصهيوني ، ويمكنه من الاضطلاع بدوره الوظيفي كأرخص حاملة طائرات محمولة، وعلى أولئك أن يكونوا بالفشل المسبق الذي ينتظر ما تبقى من فصول حروبهم اللامتناهية، فكل من يظن أن ارتفاع ضريبة الكرامة والسيادة ستثني أقطاب المقاومة عن قناعاتهم قيد أنملة هو واهمً ومشتبه، وبخاصة بعد أن تأكد إعطاب الرأس القاطر للمشروع التفتيتي على صخرة الصمود السورية المدعومة من أنصار الكرامة المصممين على مواجهة الإرهاب والقضاء عليه، وتخليص البشرية من شروره وفضح حماته ورعاته وبناته على حقيقتهم الإرهابية التي لم تعد خافية على ذي بصيرة.