تعتبر مبادرة الحزام والطريق واحدة من أهم المبادرات التاريخية التي شهدها العالم خلال العقود الماضية، نظرًا للأهمية الإقتصادية والجيوستراتيجية والثقافية والسياسية، التي يمكن أن تتحقق من خلالها. وقد حققت هذه المبادرة – منذ أن أطلقها الرئيس الصيني شي جينبينغ عام 2013 حتى الآن- الكثير من الخطوات الإيجابية والمهمة، على صعيد تقريب دول العالم من بعضها البعض، وفتح خطوط للتجارة العالمية، لم تكن معروفة خلال العقود وحتى القرون الماضية، وإعادة التواصل الإقتصادي بين شرق آسيا وغربها من ناحية، وبين شرق آسيا وأوروبا من ناحية أخرى، مرورًا طبعًا بالعقدة الأساسية للتواصل عبر التاريخ، وهي منطقة غرب آسيا.
وفي الذكرى الخمسين لتأسيس العلاقات الدبلوماسية بين لبنان والصين، يمكن الإشارة إلى الكثير من الأدوار التي يمكن أن يلعبها لبنان في مبادرة الحزام والطريق، من خلال الموقع الجغرافي الذي يحتله في هذه المنطقة، والدور الحضاري الذي يقوم به فيها، هذا إذا اتخذ المعنيون في البلد القرار الصائب واعتمدوا كل الإجراءات اللازمة للإندماج في هذه المبادرة، وأزالوا كل العقبات الخطيرة التي تعترض قيام لبنان بواجبه في تعزيز المبادرة وفي تطويرها، وإعطائها الزخم اللازم بما يعود عليه وعلى كل دول العالم بالمنفعة الكبيرة.
ربما يرى البعض أن لبنان بلدٌ صغير، وأن ما يملكه من إمكانيات مادية قليل بالمقارنة مع الدول الأخرى في المنطقة، ولكن بالمقابل، من المعروف أنه يمتلك إمكانيات بشرية هائلة جدًا، كما أنه على المستوى الحضاري كان دائمًا صلة وصل حضارية بين الشرق والغرب، وكان أبناؤه يلعبون أدوارًا مميزة على صعيد ربط منطقة البحر المتوسط بعمق آسيا، ومنطقة أوروبا بمنطقة أفريقيا والجزيرة العربية، ولذلك يمكن الوقوف عند الكثير من المميزات اللافتة التي تعطيه فرصة جدية للعب دور أساسي ومهم في مبادرة الحزام والطريق.
وفي قراءة متأنية للمعطيات، يمكن الوقوف عند هذه المميزات، التي يمكن للبنان من خلالها لعب الدور المناسب في مبادرة الحزام والطريق، وجعل التواصل أسهل وأكثر متانة بما يقدم للعالم خدمات جلّة كما يقدم للبنان حلًا للأزمات الإقتصادية التي يعاني منها.
نبدأ بالدور الحضاري، فلبنان هو ملتقى الحضارات، وعلى أرضه مرت الكثير من الأمم، وبالتالي كان على الدوام المصنع الذي يتم فيه مزج كل المدنيات التي عرفها التاريخ. من هنا يمكن له من خلال هذه الميزة التي تفتقر إليها الكثير من الدول في العالم، أن يقوم بدور الناقل الحضاري بين شرق آسيا وبين المنطقة العربية وبين أوروبا، ويجعل من الحضارة التي تقوم في لبنان مجمعًا للحضارات، ومصهرًا لكل الخبرات التي عرفها التاريخ، والتي تمنح ميزة حضارية لا يمكن الحصول عليها في أي مكان في العالم.
ومن هذا الباب أيضًا، يمكن الحديث عن دور أساسي يستطيع لبنان أن يقوم به، في نقل الثقافة الصينية إلى كل أنحاء العالم، واللبنانيون لديهم كل الإمكانيات التي تميزهم عن غيرهم من الشعوب في تقبل الثقافة الصينية وفي هضمها، وفي تقديمها إلى العالم بالشكل المناسب، وكذلك أيضًا، نقل الحضارات العالمية إلى الصين وإلى الدول الأخرى التي يمر بها طريق الحرير. لذلك يمكن أن يكون لبنان المركز الثقافي والحضاري الأول في طريق خلق علاقات حضارية وثقافية بين مختلف الدول التي يمر بها طريق الحرير الجديد، ويحقق بذلك واحدة من أهم أهداف مبادرة الحزام والطريق، وهو تلاقح الحضارات وتلاقيها وإقامة مجتمع المصير المشترك للبشرية على المستوى الثقافي والحضاري، ويكون مركز هذا التلاقح هو لبنان من بين الأمم، وبقدر ما لهذا الدور من أهمية على المستوى الحضاري والثقافي، بقدرما يقدم أيضا فرصًا للّبنانيين لإبراز المقدرات التي يملكونها وهذا له إنعكاس إقتصادي مهم جدًا إضافة إلى انعكاسه الحضاري والثقافي.
وفي مجال قريب من هذا المجال الحضاري والثقافي، يمكن الحديث عن دور إعلامي مميز يستطيع لبنان أن يقوم به على صعيد التحول إلى قاعدة أساسية للإعلام في مجال مبادرة الحزام والطريق، لأن اللبنانيين معروفون بأنهم نجوم الإعلام العربي، وكذلك نجومٌ في الإعلام العالمي، ومن الملاحظ أن اللبنانيين من الشعوب القليلة التي تحتوي الكثيرين من الذين يملكون القدرة على التحدث بأربع لغات على الأقل، هي العربية والفرنسية والإنكليزية، إضافةً إلى وجود الكثير من الطلاب الذين يتعلمون الصينية أيضًا، وقد شهدت أنا شخصيًا حينما كنت أتعلم اللغة الصينية، أن الكثير من الطلاب يتحدثون سبع أو ثمان لغات في الوقت نفسه، وهذا غير متوفر في الكثير من دول العالم، لهذا يمكن أن يكون اللبناني هو نواة إقامة مركز إعلامي موحد لمبادرة الحزام والطريق، تستفيد منه جميع الدول الموجودة على خط طريق الحرير، من أقصى شرق آسيا إلى أقصى غرب أوروبا.
أما على المستوى الإقتصادي، فإنّ الفرص أمام لبنان متعددة وكبيرة، ليكون درة تاج مبادرة الحزام والطريق، ويمكن ذكر هذه الفرص بعجالةٍ على الشكل التالي:
يمكن أن يتحول لبنان إلى قاعدة إنطلاق للمنتجات الصينية القادمة من البر من غرب آسيا إلى الموانئ الأوروبية المختلفة بالبحر، وهذا يتطلب تطوير المرافئ، والمرافق التابعة لها، وكذلك تطوير البنية التحتية للمواصلات البرية، وهذا فيه فائدة كبيرة للّبنانيين، وفيه فائدة كبيرة للعالم أيضًا. كذلك يمكن أن يكون لبنان قاعدة إنطلاق بالإتجاه المعاكس، بحيث تصل البضائع الصينية والبضائع الأخرى إلى لبنان عبر البحر، ومن هناك تدخل إلى قلب المنطقة العربية بمختلف تفرعاتها. وفي هذا المجال أيضًا يمكن الحديث عن دور لبناني أساسي في إعادة إعمار سوريا والتي يمكن أن تلعب فيها الصين ودول أخرى دورًا أساسيًا عند إنتهاء الأزمة في سوريا. وكذلك يمكن أن يكون لبنان مصدرًا للإمدادات المهمة إلى العراق وإلى دول أخرى. وقد شهدتُ في مؤتمر إقتصادي عُقد في بيروت في عام 2007 دعوة صينية لإنشاء ميناء بري في منطقة الهرمل، يكون مركزًا لتجمع البضائع الصينية المنطلقة بإتجاه دول المنطقة العربية الداخلية، بما يجعل لبنان مركزًا أساسيًا لتموين هذه المنطقة العربية بالبضائع الصينية، ويشكل سوقًا أساسيًا ومعرضًا بارزًا للبضائع الصينية، ومركزًا يأتي إليه التجار من أنحاء العالم العربي للحصول على البضائع الصينية.
ولا ننسى في الإطار الإقتصادي أيضًا، الدور الكبير الذي يمكن أن يلعبه القطاع المصرفي اللبناني، في عملية تحويل الأموال اللازمة على طريق الحرير الجديد. صحيح أن القطاع المصرفي اللبناني، يعاني من أزمة في هذه الأيام، ولكن الخبرات اللبنانية المصرفية يمكن الإستفادة منها بشكل كبير في الحصول على هذه الخدمات المصرفية المميزة، والتي كانت الصين دائمًا تنظر إليها بإعجاب كبير، حيث عبرت عن ذلك الكثير من الشخصيات الصينية خلال حديثها عن لبنان. وهذا الأمر يجب الإلتفات إليه بشكل خاص، والعمل على تقديمه كفرصة أساسية يمكن للبنان من خلالها تحقيق الكثير من المكاسب، التي تعود عليه بالفائدة والتي تنقذه من الأزمة الإقتصادية التي يعاني منها. وخلال زياراتي العديدة للصين، كان الحديث دائمًا من الشخصيات الصينية عن لبنان كمركز مالي أساسي ليس فقط في منطقة غرب آسيا، بل على مستوى العالم ككل، والحديث أيضًا عن إمكانية إستغلال هذا المركز لتحقيق تواصل مالي بين مختلف القطاعات الإقتصادية، وهذا الأمر يشكل ميزة لبنانية أساسية لا يمكن إهدارها بسهولة.
كل هذه الإمكانيات وغيرها، تجعل من دور لبنان في مبادرة الحزام والطريق دورًا متقدمًا وفرصة هائلة، ينبغي إستغلالها بأكثر قدرة ممكنة لتحقيق الإستقرار الإقتصادي في لبنان ولخدمة مبادرة الحزام والطريق. إلا أن هذه المميزات الكبرى التي يملكها لبنان تبقى معطلة وبعيدة عن الإستفادة منها، طالما أن رأي اللبنانيين لم يُجمع على العمل بكل الطاقات الممكنة للإندماج بشكل كبير في مبادرة الحزام والطريق، وإزالة كل العقبات التي تقف في وجه هذا الإندماج، وعلى رأسها طبعًا عدم إيمان الكثير من الفئات اللبنانية بأهمية العلاقة المتينة مع الصين، ورفضهم الإقرار بالأهمية الهائلة التي تكمن في مبادرة الحزام والطريق، إنسجامًا مع العقلية التي تسود لدى بعضهم، في رفض النظر إلى الشرق والإعتماد على الغرب بشكل أساسي، والبقاء في الدائرة الغربية، لأسباب فكرية وأسباب ذاتية ضيقة وخاصة.
والأمل كل الأمل، أن تحمل الخمسينية المقبلة من العلاقات اللبنانية الصينية البشرى بأن يقوم لبنان بدوره و يأخذ موقعه المتقدم الذي يستحقه في مبادرة الحزام والطريق، والتي تشكل أملًا مستقبليًا ليس فقط للصين ولمنطقة غرب آسيا وحسب، وإنما للعالم كله. وأمّا من تعمى عيونه عن هذه الحقيقة، فهو لا يفكر بمصلحة لبنان ولا بمصلحة شعبه، بل يفكر حصرًا بمصالحه الشخصية وبمصالح فئوية ضيقة بعيدة عن مصلحة لبنان ككل.
__________________
محمود ريا، كاتب متخصّص بشؤون الصين وشرق آسيا
المصدر: الملف الاستراتيجي