خطبة الجمعة لسماحة الشيخ علي دعموش 23-7-2021 – موقع قناة المنار – لبنان
المجموعة اللبنانية للإعلام
قناة المنار

خطبة الجمعة لسماحة الشيخ علي دعموش 23-7-2021

الشيخ علي دعموش

 

المسؤولية ومراعاة احوال الناس

المسؤولية ايا كان نوعها هي امرحساس ودقيق بل وثقيل ايضا، ومن يتصدى للشأن العام ويتحمل مسؤولية عامة ويجعل نفسه في مواقع المسؤولية ايا كانت المسؤولية، سواء كانت مسؤولية دينية أو مسؤولية زمنية، سياسية او اجتماعية، فان عليه ان يراعي احوال الناس واوضاعهم، وان يكون بحجم المسؤولية التي يحملها.
ولعل اول ما يجب على المسؤول القيام به هو ان يساوي الناس في مستوى عيشهم لا ان يكون فوقهم ، بل ان يكون اقلهم ويعيش باضعفهم.

ففي كتاب أرسله الإمام علي عليه السلام إلى عثمان بن حنيف الأنصاري وكان عامله على البصرة وقد بلغه أنه دعي إلى وليمة قوم من أهلها، يقول عليه السلام فيه:

أَمَّا بَعْدُ، يَابْنَ حُنَيْف: فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ رَجُلاً مِنْ فِتْيَةِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ دَعَاكَ إلى مَأدُبـَة فَأَسْرَعْتَ إِلَيْهَا تُسْتَطَابُ لَكَ الألوَانُ، وَتُنْقَلُ إِلَيْكَ الْجِفَانُ(ما يوضع به الطعام). وَمَا ظَنَنْتُ أَنَّكَ تُجِيبُ إِلى طَعَامِ قَوْم، عَائِلُهُمْ (محتاجهم) مَجْفُوٌّ(أي مطرود)، وَغَنِيُّهُمْ مَدْعُوٌّ. فَانْظُرْ إِلَى مَا تَقْضِمُهُ(المأكل) مِنْ هذَا الْمَقْضَمِ، فَمَا اشْتَبَهَ عَلَيْكَ عِلْمُهُ فَالْفِظْهُ، وَمَا أَيْقَنَتَ بِطِيبِ وَجهِهِ فَنَلْ مِنْهُ.

أَلاَ وَإِنَّ لِكُلِّ مَأْمُوم إِمَاماً يَقْتَدِي بِهِ، وَيَسْتَضِيءُ بِنُورِ عِلْمِهِ; أَلاَ وَإِنَّ إِمَامَكُمْ قَدِ اكْتَفَى مِنْ دُنْيَاهُ بِطِمْرَيْهِ، وَمِنْ طُعْمِهِ بِقُرْصَيْهِ. أَلاَ وَإِنَّكُمْ لاَ تَقْدِرُونَ عَلَى ذلِكَ، وَلكِنْ أَعِينُونِي بِوَرَع وَاجْتِهَاد، وَعِفَّة وَسَدَاد. فَوَالله مَا كَنَزْتُ مِنْ دُنْيَاكُمْ تِبْراً(فتات الذهب والفضة)، وَلاَ ادَّخَرْتُ مِنْ غَنَائِمِهَا وَفْراً، وَلاَ أَعْدَدْتُ لِبَالِي ثَوْبِي طِمْراً، وَلاَ حُزْتُ مِنْ أَرْضِهَا شِبْراً، وَلاَ أَخَذْتُ مِنْهُ إلاَّ كَقُوتِ أَتَان دَبِرَة(الدابة التي عقر ظهرها فقل أكلها)، وَلَهِيَ فِي عَيْنِي أَوْهَى وَأَهْوَنُ مِنْ عَفْصَة مَقِرَة..

فقد دل هذا النص على أن مسؤولية الحاكم :

اولا: ان يراعي أحوال الناس كلهم ومن دون استثناء، ومن دون فرق او تمييز بين دين ودين، أو بين طائفة وطائفة، او بين مذهب ومذهب، او بين منطقة ومنطقة، او بين فئة وفئة، الجميع بلا استثناء القريبون والبعيدون، الفقراء والاغنياء، المتعلمون والجاهلون، الوجهاء واليسطاء، كل الطبقات الاجتماعية  يجب ان يكونوا في دائرة اهتمام ورعاية وعناية المسؤول والحاكم وصاحب السلطة الذي يتصدى لادارة شؤون الناس .

ثانيا : لا بد للحاكم من أن يعرف ويطلع على اوضاع واحوال كل فرد من أبناء شعبه.

وثالثا: على الحاكم أن يساوي نفسه بأضعف أبناء شعبه في مستوى المعيشة ونمط الحياة، فلا يصح ان يعيش في برجه العاجي يعيش رفاهية ورغداً من العيش، بينما ابناء شعبه يعانون الفقر والجوع والحرمان، حتى لو لم يكن وجود بعض الفئات الفقيرة والعاجزة متيقناً، فإن احتمال وجودها يحتم عليه مراعاة حالها، وتطبيق معيشته على الحال التي يحتمل أن تكون عليها هذه الفئة في الواقع.

إن من يخروج من المسؤولين والحكام عن هذا السلوك وعن هذه الطريقة، وتقوده أهواءه ومصالحه وامتيازاته الشخصية والعائلية وجشعه الى الاستئثار بالامتيازات والاستهتار باوضاع الناس وعدم الاكتراث لاحوالهم ولما يعانونه من مشكلات وازمات  هو ليس اهلا للمسؤولية ولا يصلح للمقام الذي هو فيه، ويجب ان تسقط صلاحيته، ولذلك فان امير المؤمنين (ع) اسقط صلاحية من لا يملك بعض المواصفات التي يجب ان تتوافر في المسؤول الحاكم فقال «عليه السلام» في مورد آخر: «أنه لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج والدماء، والمغانم، والأحكام، وإمامة المسلمين: البخيل، فتكون في أموالهم نهمته، ولا الجاهل، فيضلهم بجهله، ولا الجافي، فيقطعهم بجفائه، ولا الخائف للدول (من يخشى تقلبات الأحوال) ، فيتخذ قوماً دون قوم، ولا المرتشي في الحكم، فيذهب بالحقوق، ويقف بها دون المقاطع، ولا المعطل للسنة فيهلك الأمة..»

فالمسؤول الذي لا يبالي بما يعانيه شعبه ولا يحرك ساكنا ازاء ما يتعرض له من فقر وجوع واذلال، ليس جديرا بالمسؤولية ويجب ان يتنحى عنها.

المسؤول لا يرضى ان يجوع شعبه وهو يتفرج عليهم، ويرفض اذلال شعبه بالغذاء والدواء والكهرباء والمحروقات بينما هو يتنعم بالخيرات والثروات.

المسؤول يجب ان يكون قدوة للناس بسلوكه وعمله واسلوب حياته ومستوى عيشه، وان يشعر بالامهم ومعاناتهم ومشاكلهم ويسهر على معالجتها.

المسؤول الذي يتصدى لادارة شؤون الناس يجب ان يكون مخلصا لشعبه بالفعل والعمل،ان يكتفي بما قدر الله له على المستوى الشخصي ويبتعد عن اللصوصية والسرقات والاستئثار بالثروات ونهب الاموال واضاعة مصالح الناس.

يقول امير المؤمنين(ع) في نفس النص المتقدم: «ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمها بقرصيه. ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد، وعفة وسداد».

وقد تضمنت هذه الفقرة حقيقة مهمة هي: إنه «عليه السلام» لم يقل: «ألا وإني قد اكتفيت»، بل قال: «ألا وإن أمامكم» وربما ذلك من اجل ان يشير إلى وجوب الإقتداء به في هذا الأمر، لأنه يفعله من موقع الإمامة التي تقتضي لزوم الاقتداء، إلا أن ذلك لا يعني ان يبحث الحاكم عن العيش الذليل، او ان يختار الطريقة الصعبة في نمط الحياة والعيش مع توفر ما هو أيسر وأسهل، كما لا يعني ذلك إهمال تحصيل ما يعين على تذليل مصاعب الحياة. بل المطلوب هو أن لا يجعلوا الدنيا أكبر همهم، وأن لا يضحوا بآخرتهم في سبيل دنياهم، وأن لا تكون الملذات والاهواء والمصالح والحصول على الامتيازات هي الهدف، والغاية.. بل يكون الهدف هو رضا الله تعالى، وخدمة الناس وتحقيق مصالحهم.

ثم يقول(ع) عن حقيقة الزهد: «ولو شئت لاهتديت إلى مصفى هذا العسل، ولباب هذا القمح، ونسائج هذا القز. ولكن هيهات أن يغلبني هواي، ويقودني جشعي إلى تخير الأطعمة، ولعل بالحجاز أو اليمامة، من لا طمع له في القرص، ولا عهد له بالشبع إلخ..»

وفي هذه الكلمات إشارة الى العديد من الأمور:

1ـ أنه «عليه السلام» حين استعفف عن تناول ألذ الاطعمة ولبس افخر الثياب اي عن مصفى العسل، ولباب القمح، ونسائج القز، لم يستعفف عن ذلك لانه غير مقدور عليه وعاجز عن تحصيله، او لغلاء قيمته فلا يقدر على شرائه، او لانه لا يحبه ولا يرغب فيه، او لانه مفقود في الاسواق، أو ليمنع ملامة الناس له ، أو لانه يخجل منهم، أو ما إلى ذلك، بل كل ذلك كان موجودا ومقدورا عليه من قبله، وكان باستطاعته ان يحصل عليه بيسر، وما دعاه إلى الزهد في كل ذلك هو الرغبة في نيل رضا الله سبحانه وتعالى ومواساة الفقراء وذوي الحاجة والفاقة ، فالشعور الانساني والاندفاع الايماني العميق هو الذي دعاه إلى هذا الأمر ، وحببه إليه، ورجحه لديه، وهو الذي جعله يعيش كواحد من الناس لا يمتاز عنهم بشيء.
وقد ذكر «عليه السلام» هذه الأمور الثلاثة: «مصفى العسل، ولباب القمح، ونسائج القز»، ليجمع بين اللذائذ الأساسية كلها، وهي أفضل وألذ الاطعمة وأفخر انواع الالبسة. مؤكداً على أنه لم يزهد بشيء دون شيء. ليدل بذلك على: أنه ينطلق من ملكة الزهد وحقيقته، ولا يتأثر بأي مانع قد يعرض له في مجال دون آخر..
وقد بين لنا «عليه السلام» أيضاً: أن ما يضاد الزهد الواقعي أمران:
أحدهما: غلبة الهوى.. والثاني: سيطرة الجشع على الإنسان.. والهوى والجشع: هما أسوأ شيء يصاب به الحاكم والمسؤول، فان المسؤول الجشع يدمر كل شيء، ولا يهمه الا نفسه وعائلته وحاشيته، ولا يبالي بما هو ابعد من ذلك، وبالتالي لا يعنيه ما يعاني منه ابناء شعبه من فقر وجوع وازمات ومشكلات وهذا هو حال كثير من مسؤولي وزعماء هذا البلد الذي بات بحاجة الى معجزة لانقاذه بسبب سوء ادارة الطبقة السياسية وجشعها وفسادها اللامتناهي.

 

البث المباشر