ليس المسيحيون المشرقيون بحاجة الى مَن يتولى إنارة دروبهم ، هُم الذين سلكوا جلجلة السيد المسيح على خطى بولس الرسول، حاملين راية المحبة والسلام، يكتبون تاريخاً حافلاً بالإرث الثقافي النهضوي الواعي، وهُم رغم الظروف والتقلبات عبر الأزمنة، تعايشوا مع الأزمات، ويمتلكون مرونة العقل في مقاربة الواقع، حتى في أحلك الإستحقاقات الوجودية، وليسوا وحدهم مظلومين، لكنهم وجدوا أنفسهم حَمَلَة صلبان وسالِكِي جلاجل لا تنتهي، وباتوا اليوم شأنهم شأن سائر الأقليات الدينية في الشرق، يدفعون أثمان المظلومية ما دام هناك على الأرض ظالم بصرف النظر عن أماكن تواجده ووسائل شيطنته وتكفيره لأي آخر.
ترتقي مناسبة الجمعة العظيمة في الشرق من المستوى الشعائري الديني، الى الوجع الإنساني المُتمادي والمُتوارَث، بل هي باتت تتطور في الضمائر وتختلف عن طقوس الإحياءات الغربية، وما على المسيحيين المشرقيين، الى جانب تمسِّكهم بإيمانهم الديني، سوى أن يقرأوا تاريخ الآخرين الغابر والمُعاصر، لأنهم على أرض المشرق يحتاجون التفاعل مع الآخر ليكون لهم السنَد ويكونوا له كذلك، وأن يقتنعوا بما يقرأون من مُتغيرات، أن الشرق القريب أبقى لهم من الغرب البعيد، ليس من الناحية الجغرافية بل الإيمانية والثقافية والإجتماعية، خاصة أن إجتثاث أية شريحة إنسانية من الجذور بهدف غرسها في أرضٍ أخرى، مسألة تدفع ثمنها أجيالٌ وأجيال ألماً ومرارة.
ولأننا نتناول هذه المناسبة من منطلق إنساني شامل، نرى الإنتفاض على الظلم من الواجبات المُقدَّسة، وثقافة تكفير الآخر لمجرَّد أنه “آخر”، سواء في العرق أو اللون أو الدين أو المذهب، هي التي اعتمدها الظالم عبر التاريخ، بحقّ الضعيف المُطالِب باحترام إنسانيته، لكن ردود الفعل على الظلم تتفاوت بين الشعوب، وهنا تكمُن أهمية الإيمان المُتوارَث، برفض ما ارتكبته أيادي الرومان واليهود بحق السيد المسيح، وما ارتكبه يزيد بن معاوية بحق الإمام الحسين، وأن قدَر من يحمل هموم البشر من أجل مصلحة الجماعة، بغاية إرساء المحبة والإخاء والعدل، أن يلقى المزيد من الظُلم على يدِ كل ظالم، ومن هذا المنطلق، باتت الجمعة العظيمة لدى المسيحيين المشرقيين مناسبة تجديد الوعد بالصبر على الآلام ومواجهتها بمقتضى الظروف، وباتت موقعة كربلاء لدى أبناء الحسين رفضاً متوارثاً لإنتصار سيف القهر، واستلهام الفكر الثائرعلى الظلم أساساً لإرساء العدل ورفع المظلومية.
اليوم سلك السيد المسيح درب الجلجلة، فيما كان الظالم يستوي على عرشه، ويتوالى قيام وانهيار العروش، وتتوالى ثورات الحق بمواجهة الباطل على امتداد الأزمنة ولكن، علينا على الأقل قراءة التاريخ وحفظه غيباً – تاريخنا وتاريخ الشريك الآخر- كي يكون لنا الهداية الى حيث يجب أن تنتهي الجلجلة وتكون لنا في هذا الشرق قيامة..
* كاتب مسيحي مشرقي
المصدر: موقع المنار