ربما اعتاد لبنان كما كل دول العالم مسألة “التعليم عن بُعد” لطلاب المدارس والمعاهد والجامعات، نتيجة الإقفال الذي فرضته جائحة كورونا، وبصرف النظر عن نسبة نجاح هذه التجربة، فهي تبقى الأمر الواقع المفروض بهدف تعويض الأجيال الفتيَّة ما قد تخسره في مسيرتها التعليمية، مع التأكيد، على أن التعليم عن بُعد يضمن على الأقل احتضان الأولاد داخل منازلهم، والنأي بهم عن أحداث الشارع وتداعيات الفلتان بكل مخاطره، لكن للأسف، هذا الزائر المُقيم في كل بيت الذي إسمه تلفزيون، تسعى بعض شاشاته الى نقل الشارع بكل محظوراته ومحاذيره الى منازل الناس، الذين كانوا يعتقدون، أن بقاء الولد بعيداً عن الشارع ينأى به عن التحركات المشبوهة التي تخترق الحراكات، فتكفَّلت محطات التبعية الرخيصة بتعليمه المنطق الشارعي والبهلوانيات الشوارعية.
العائلة اللبنانية بكامل أفرادها تُعاني، والهموم المشتركة للأب والأم في كيفية مواجهة الأزمة المعيشية الخانقة، أُضيفت إليها كارثة السياسة التحريضية التي تنتهجها بعض الشاشات، التي لم تعُد ناقلة للخبر، بقدر ما هي صائغة للخبر كما ترتأي، وصانعة للفتنة ولا ترتوي، ولو أن وعي اللبنانيين أصحاب الحقوق المطلبية والبديهية العادلة، جعلهم ينكفئون عن المشاركة، بعدما تبيَّنت لهم خطط تدمير ما بقي من مؤسسات حكومية وخاصة وتهديد جدِّي للكيان الوطني، لكن هذه الشاشات بقيت وستبقى تُداهم عُقر الدار لإدخال الأكاذيب تحت عنوان أخبار.
نُعطي مثالاً واحداً عن كيفية صياغة الخبر الى كذبة، وصناعة الحدث لتأجيج فتنة:
مساء الإثنين الماضي كان هناك حراك في الشارع، تزامناً مع انعقاد إجتماع مالي وأمني في قصر بعبدا، وأعلنت مذيعة إحدى المحطات مقررات الإجتماع، ومن ضمنها، إقفال المنصات الإلكترونية غير الشرعية التي تتلاعب بسعر صرف الدولار، ومُلاحقة الصرافين المُخالفين، والإعلان عن قرار فتح الطرقات بواسطة الأجهزة الأمنية.
وفوراً بعد إذاعة المقررات، إتصلت هذه المذيعة بمراسلي المحطة على الأرض، وأبلغتهم فقط لا غير أن اجتماع بعبدا أسفر عن قرار فتح الطرقات بالقوة، وهذا النوع من الإجتزاء للمقررات وصياغة الخبر الوحيد بهذه الطريقة، هو النموذح الذي تعتمده بعض الشاشات للتحريض لا بل المشاركة في استدعاء المُتظاهرين.
نحن نُدرك أن الحكومة سوف تتشكل يوماً، وسعر صرف الدولار لن نبقى أسرى تقلباته الى الأبد ولكن، نحن نريد أن نعيش تربيتنا ونُلقِّن أبناءنا، عن قُرب وعن بُعد، أدبياتنا الإنسانية والدينية والوطنية، بعيداً عن بازار في سوق بيع الوطن بالدولار أو بالريال، ولا نُراهن على مؤسسات رقابية إعلامية مغلوب على أمرها، ولا على وعي إدارات بعض المحطات التي باعت نفسها للشياطين، لكن الرهان يبقى على ذواتنا بوقف متابعة هذه المحطات، لأن الجوع أرحم، والوباء أرأف، وكفانا نسمح للاستتباع والتحريض أن تنهش ما بقي من أخلاق نمتلكها وقيمة لذواتنا وكرامة لهذا الوطن …