تجربة عقود مع المؤسسة السياسية الأميركية في العلاقة مع لبنان هي نفسها لا تتغيَّر، سواء كان الجمهوريون أم الديمقراطيون في الحُكم، والشعب اللبناني هو ضمن المجموعات الرافضة للأذى الأميركي، الذي بلغ في عهد ترامب حدود الجنون، ولم يقتصرعلى قارة أو بلد، ومن كاراكاس الى بيروت زرع ترامب بذور الحقد على أميركا كما لم يسبقه أحد من أسلافه، إضافة الى الإهتزازات الداخلية التي لن يكون آخرها الجدل حول مواجهة العنصرية ومطالبة الأميركيين بتعديل قانون الإنتخاب، وسط عجزٍ حكومي عن مواجهة وباء كورونا فيما البطالة بلغت نسبة غير مسبوقة، ما جعل ترامب يتوهَّم أن المغامرات الخارجية سوف تخطف عقول الأميركيين عن همومهم الداخلية، وذهب بعيداً في الصدامات، من كوريا الشمالية الى أميركا اللاتينية والشرق الأوسط، مروراً بأوروبا التي حاول ترامب فرض “فديةٍ” عليها لزيادة مساهماتها في تمويل “الناتو” والإنحراف معه نحو مواجهات لا تريدها سواء مع إيران أو في العراق وسوريا.
نذكر بيروت مع كاراكاس، لأن الشعبين اللبناني والفينزويلي واجها نفس الحرب في ولاية ترامب، حرب الجيل الرابع التي تعتمد الحصار والعقوبات الى حدّ التجويع بهدف التطويع، مع فارقٍ كبير بين واقع جغرافية لبنان كدولة مواجهة مع العدو الإسرائيلي وواقع فنزويلا المُدافِعَة عن كيانها الرافض للهيمنة الأميركية على تاريخها الثوري وشعبها الرافض رفع شعار “جمهورية الموز” لأميركا.
وقد يكون موقف الرئيس إيمانويل ماكرون من خلال مسارعته الى تهنئة جو بايدن وحديثه عن أولويات أوروبية دفاعية مطلوبة من “الناتو”، مشاركة منه مع ألمانيا في كسر الجرَّة خلف ترامب، الذي وصَّفته المستشارة أنجيلا ميركل منذ سنتين بالشخص الذي لا يؤتمن له ولا تُوضع اليد في يده، لكن التصريحات الإيرانية خاصة من الرئيس حسن روحاني، جاءت واضحة وناصحة لأميركا بوجوب اعتماد العقلانية في العلاقات الدولية الأميركية مستقبلاً، وكل المواقف الفرنسية والألمانية والإيرانية تأتي من التجربة غير المجدية، المباشرة وغير المباشرة، مع شخصية براغماتية فوضوية وغير منضبطة ضمن سياق مُتَّزِن مثل شخصية ترامب، التي أضرَّت بأميركا قبل الآخرين، وعجِزت عن تطويع الحلفاء وانهزمت أمام الخصوم.
هذه النزعة الديكتاتورية المُتعالية الفارغة، التي كان يشكو منها الخارج في السياسات المُتهوِّرة لترامب، يذوق مرارتها الآن الشعب الأميركي في الداخل نتيجة الإنتخابات التي جعلها الرئيس الخاسر مثيرة للجدل، بحيث يتصرَّف بديمقراطية بلاده كما يفعل رؤساء بعض بلدان العالم الثالث التي كانت تصِفها أميركا بالدول المارقة. اما تجاه منطقتنا فالمطلوب عقلنة التصرُّف التي تطرَّق إليها الرئيس روحاني كشرطٍ يجب أن يلتزم به كل من سوف يسكن البيت الأبيض، بعد التجربة الفاشلة التي عاشتها أميركا خلال عقود من الإستكبار وآخر رموزه لغاية الآن دونالد ترامب.
لا تعنينا الملفات الداخلية الشائكة التي ورِثها بايدن عن ترامب، انما السياسات التي تخص منطقتنا والاتفاقيات التي نقضها وصولاً الى الإعتباطية الفوقيَّة في حصار الشعوب وفرض الحصار على المؤسسات والأفراد، وما يعنينا ايضا، نحن الذين باتت المُعاناة الصامدة بِكِبَر قدرُنا وقرارنا، أن تعود بعض الواقعية الى البيت الأبيض، قبل أن تُنهي أميركا نفسها في مغامرات غير محسوبة تشبه جنون دونالد ترامب…
المصدر: موقع المنار