يدرك الأطباء أنه لا توجد درجة حرارة جسم “طبيعية” واحدة للجميع في كل الأوقات، على الرغم من التثبيت على 98.6 درجة فهرنهايت (37 درجة مئوية).
وعلى مدار اليوم، يمكن أن تختلف درجة حرارة جسمك بمقدار 1 فهرنهايت، عند أدنى مستوياتها في الصباح الباكر وأعلى مستوى في وقت متأخر بعد الظهر. وتتغير عندما تكون مريضا، وترتفع أثناء التمرين وبعده، وتختلف عبر الدورة الشهرية وبين الأفراد، كما أنها تميل إلى الانخفاض مع تقدم العمر.
وبعبارة أخرى، تعتبر درجة حرارة الجسم مؤشرا لما يحدث داخل جسمك، مثل منظم الحرارة الأيضي.
ووجدت دراسة مثيرة للاهتمام من وقت سابق من هذا العام، أن درجة حرارة الجسم الطبيعية تبلغ نحو 97.5 فهرنهايت لدى الأمريكيين – على الأقل في بالو ألتو، كاليفورنيا، حيث أخذ الباحثون مئات الآلاف من قراءات درجة الحرارة. وأشار هذا إلى أنه في الولايات المتحدة، انخفضت درجة حرارة الجسم الطبيعية على مدار الـ 150 عاما الماضية.
ووُضع معيار 98.6 فهرنهايت لـ “درجة حرارة الجسم الطبيعية” لأول مرة من قبل الطبيب الألماني كارل وندرليتش، في عام 1867 بعد دراسة 25000 شخص في لايبزيغ. ولكن، أبلغ على نطاق واسع عن انخفاض درجات حرارة الجسم لدى البالغين الأصحاء. ولاحظت دراسة أجريت عام 2017 على 35 ألف بالغ في المملكة المتحدة، انخفاض متوسط درجة حرارة الجسم عند 97.9 فهرنهايت.
فما الذي قد يسبب هذه التغييرات الدقيقة والمهمة؟، وهل هذه الإشارات الاستفزازية للتغييرات في فسيولوجيا الإنسان تحدث فقط في المناطق الحضرية والصناعية، مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة؟.
تقول إحدى الفرضيات الرئيسية إنه بفضل تحسين النظافة والصرف الصحي والعلاج الطبي، يعاني الناس اليوم من عدد أقل من الإصابات التي قد تؤدي إلى ارتفاع درجات حرارة الجسم. وتمكّن الباحثون من اختبار هذه الفكرة مباشرة في بيئة فريدة: بين الباحثين عن البستنة في تسيماني في منطقة الأمازون البوليفية.
يعيش أفراد قبيلة تسيماني في منطقة نائية مع وصول ضئيل إلى وسائل الراحة الحديثة، ونعلم من التجربة المباشرة أن العدوى شائعة – من نزلات البرد إلى الديدان المعوية إلى السل. وبعد أن عمل فريق البحث مع تسيماني في دراسة مجموعة متنوعة من الموضوعات المتعلقة بالصحة والشيخوخة لمدة عقدين، كان لديهم فرصة غنية لملاحظة ما إذا كانت درجات حرارة الجسم تنخفض بالمثل في هذه البيئة الاستوائية، حيث تنتشر العدوى.
وكجزء من مشروع تسيماني للصحة وتاريخ الحياة، يسافر فريق متنقل من الأطباء والباحثين البوليفيين من قرية إلى أخرى، لمراقبة الصحة أثناء علاج المرضى. ويسجلون التشخيصات السريرية والقياسات المعملية للعدوى في كل زيارة مريض.
وعندما بدأوا العمل لأول مرة في بوليفيا عام 2002، كانت درجات حرارة أجسام أفراد تسيماني مماثلة لما عُثر عليه في ألمانيا والولايات المتحدة منذ قرنين: حيث بلغ متوسطها 98.6 درجة فهرنهايت، ولكن على مدار فترة قصيرة نسبيا مدتها 16 عاما، لاحظوا انخفاضا سريعا في متوسط درجة حرارة الجسم في هذا المجتمع. والانخفاض حاد: 0.09 فهرنهايت في السنة، أما اليوم فتقارب درجات الحرارة 97.7 فهرنهايت.
وبعبارة أخرى، في أقل من عقدين من الزمن، نشهد المستوى نفسه من التدهور الذي لوحظ في الولايات المتحدة على مدار قرنين تقريبا. ويمكن قول هذا بثقة، حيث أن التحليل يعتمد على عينة كبيرة (زهاء 18000 ملاحظة لما يقرب من 5500 بالغ)، مع التحكم إحصائيا في العديد من العوامل الأخرى التي قد تؤثر على درجة حرارة الجسم، مثل درجة الحرارة المحيطة وكتلة الجسم.
والأهم من ذلك، في حين أن الإصابة بأمراض معينة، مثل التهابات الجهاز التنفسي أو الجلد، كانت مرتبطة بارتفاع درجة حرارة الجسم أثناء زيارة طبية، إلا أن التكيف مع هذه العدوى لم يفسر الانخفاض الحاد في درجة حرارة الجسم بمرور الوقت.
فلماذا انخفضت درجات حرارة الجسم بمرور الوقت، لكل من الأمريكيين وأفراد تسيماني؟. لحسن الحظ، هناك بيانات متاحة من البحث طويل الأمد في بوليفيا لمعالجة بعض الاحتمالات.
وعلى سبيل المثال، قد يكون الانخفاض بسبب ارتفاع الرعاية الصحية الحديثة وانخفاض معدلات العدوى الخفيفة العالقة الآن مقارنة بالماضي. ولكن في حين أن الحالة الصحية تحسنت بشكل عام في بوليفيا على مدى العقدين الماضيين، ما تزال العدوى منتشرة على نطاق واسع بين قبيلة تسيماني. وتشير النتائج إلى أن انخفاض معدل الإصابة وحده لا يمكن أن يفسر الانخفاض الملحوظ في درجة حرارة الجسم.
وقد يكون الناس في حالة أفضل، وبالتالي لا تحتاج أجسامهم إلى العمل بجد لمكافحة العدوى. أو أن زيادة الوصول إلى المضادات الحيوية والعلاجات الأخرى يعني أن مدة الإصابة أصبحت أقل الآن مما كانت عليه في الماضي. ومن الممكن أيضا أن تؤدي زيادة استخدام بعض الأدوية مثل الإيبوبروفين أو الأسبرين إلى تقليل الالتهاب، وينعكس ذلك في درجات الحرارة المنخفضة. ومع ذلك، في حين أن القياسات المختبرية للالتهاب على مستوى النظام كانت مرتبطة بارتفاع درجة حرارة الجسم أثناء زيارات المريض، فإن حساب ذلك في التحليل لم يؤثر على تقدير الباحثين لمقدار انخفاض درجة حرارة الجسم سنويا.
وهناك تفسير آخر محتمل للانخفاضات التاريخية في درجة حرارة الجسم، هو أن الأجسام الآن لا تحتاج إلى بذل الكثير من الجهد لتنظيم درجة حرارة الجسم الداخلية، بسبب مكيفات الهواء في الصيف والسخانات في الشتاء. وفي حين أن درجات حرارة أجسام أفراد تسيماني تتغير مع الوقت من العام وأنماط الطقس، فإن قبيلة تسيماني لا تستخدم أي تقنية متقدمة لتنظيم درجة حرارة أجسامهم. ومع ذلك، فإنهم يحصلون على الملابس والبطانيات أكثر مما كانوا في السابق.
ويظل فهم سبب انخفاض درجات حرارة الجسم سؤالا مفتوحا للعلماء لاستكشافه. ومهما كان السبب، يؤكد الخبراء أن درجة حرارة الجسم أقل من 98.6 فهرنهايت خارج أماكن مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة – حتى في المناطق الريفية والاستوائية مع الحد الأدنى من البنية التحتية للصحة العامة، حيث ما تزال العدوى هي السبب الرئيسي للقتل.
ويأملون أن تلهم النتائج المزيد من الدراسات حول كيف يمكن للظروف المحسنة أن تخفض درجة حرارة الجسم. ونظرا لكونها سريعة وسهلة القياس، فقد تثبت درجة حرارة الجسم يوما ما أنها مؤشر بسيط ولكنه مفيد، مثل متوسط العمر المتوقع، والذي يوفر رؤية جديدة لصحة السكان.
يذكر أن هذا التقرير من إعداد مايكل غورفن، أستاذ الأنثروبولوجيا، وتوماس كرافت، باحث ما بعد الدكتوراه في الأنثروبولوجيا، في جامعة كاليفورنيا سانتا باربرا.
المصدر: لايف ساينس