نص الخطبة
يقول الله تعالى: ﴿الشَّيْطَـانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ وَاللهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مّنْهُ وَفَضْلاً وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾.
الآية الكريمة وان كانت واردة في سياق الحديث عن الإنفاق حيث إنها تشير إلى أحد الموانع الاساسية التي تصد الانسان عن الإنفاق، وهو الوساوس الشيطانيّة التي تخوّف الإنسان من الفقر والعوز في حال انفق او تصدق بجزء من امواله وخاصّة من الاموال الطيبة التي يحتاجها، الا انها تنطبق على كل المرجفين الذين يخوفون الناس من الفقر والجوع والانهيار الاقتصادي والمعيشي إن هم اصروا على التمسك بقضاياهم المحقة وبسيادة بلدهم وبمواصلة طريق المقاومة ورفضوا الاذعان للشروط والاملاءات الامريكية والغربية، وهناك الكثير من حلفاء الشيطان وأدواته وأتباعه يمارسون هذا الدور الشيطاني في التخويف والتهويل بالجوع والفقر، واحيانا ينجحون في دورهم، فيأثرون في ضعاف النفوس وفي الجبناء، ويصدونهم عن الحق وعن القيام بمسؤولياتهم في حماية بلدهم والحفاظ على سيادته واسقلاله.
تقول الآية (الشيطان يعدكم الفقر) الشيطان يوسوس لكم ويتوعدكم بالفقر ويقول لكم: لا تنسوا مستقبلكم ومستقبل اولادكم ، او يقول لكم كما يقول البعض اليوم في لبنان: ليس باستطاعة لبنان ان يقف في وجه اميركا وتدخلاتها في الشؤون الداخلية او ان يرفض شروطها واملاءاتها، لانكم ان رفضتم الخضوع لاميركا او تخليتم عن اميركا وحلفائها واتجهتم نحو الشرق وتعاملتم مع الصين وايران وروسيا ستجوعون وينهار بلدكم! او ان بقيتم متمسكين بالمقاومة ستعاقبون وتحاصرون ويمنع الغرب صندوق النقد الدولي من مساعدتكم .. هذه الوساوس بتنا نسمعها يوميا من شياطين الجن وشياطين الانس ومن الشيطان الاكبر من اميركا وترامب وبمبيو وشينكر وسفيرتهم في لبنان، ومن ادواتهم واتباعهم الذين يستجدون رضاهم كما يستجد العبد رضا سيده، وهؤلاء لا يكتفون بالوسوسة وتخويفكم والتهويل عليكم بل يتوعدونكم بالكارثة ويدعونكم إلى الإثم وإرتكاب المعصية والعمل على خلاف مصلحة بلدكم وسيادته (ويأمركم بالفحشاء) فالشيطان يحمل الإنسان من خلال تخويفه من الفقر والجوع على ارتكاب الفاحشة والمعصية بالاستسلام والخضوع للظالمين والمستكبرين.
جوقة المهولين على اللبنانيين هذه الايام مستمرة بلا انقطاع وكأن هناك من يريد تيئيس اللبنانيين كي يستسلموا للشروط الامريكية والاسرائيلية، ان يستسلموا لشروطهم في ترسيم الحدود لمصلحة اسرائيل، وفي مسألة النفط والغاز، وفي موضوعة المقاومة، وفي تركيبة الحكومة.
فالحديث عن الانهيار والجوع والبؤس والفقر يكاد لا ينتهي سواء من سياسيين وصحافيين اومن محللين اقتصادين وماليين، وكأن المطلوب القضاء على كل أمل لدى اللبنانيين بالخلاص من ازماتهم، والبعض يكاد يصرح ان لا خلاص للبنانيين الا بالاستسلام والخضوع الكامل لارادة اميركا التي لا يعنيها لبنان الا بمقدار ما تشكله مقاومته من تهديد لاسرائيل واطماعها في مياه لبنان ونفطه وغازه.
فصحيفة “واشنطن بوست” الأميركية وفي تقرير لها عن الوضع الاقتصادي والمالي في لبنان تقول ان “لبنان مقبل على الانهيار والبؤس والجوع حيث ستكون هذه المرحلة قاسية لم تشهدها البلاد منذ انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية”.
وأضافت: أن العملة اللبنانية بلغت مستويات منخفضة جديدة مع تسارع الانهيار المالي والاقتصادي في البلاد، ممّا ينذر بمزيد من البؤس لملايين اللبنانيين الذين تبخرت قيمة مدخراتهم ورواتبهم”.
والسنيورة يحذر اللبنانيين من اننا قادمون إلى كارثة، وأن “الأداء اليوم يوصلنا إلى الانهيار ونحن اليوم قبل الارتطام الكبير. متناسيا ان سياساته الاقتصادية والمالية اضافة الى الاحد عشر مليارا المتهم بها، وحماية فريقه السياسي للمصارف ولحاكم مصرف لبنان وهندساته المالية، هي التي اوصلت البلد الى حافة الانهيار وهي كفيلة بايصاله الى الارتطام الكبير ان لم يعمل على تغيير هذه السياسات واعادة النظر بالنظام المالي والمصرفي في لبنان.
(الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ) والجوع وانهيار الاقتصاد والبلد (وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ) والخضوع والاستسلام لاميركا (وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلًا ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) الله يعدكم المغفرة والرحمة والقوة والصبر الذي يجعلكم تتجاوزون هذه التحدي وتنتصرون في هذه الحرب كما انتصرتم في كثير من المواقع بايمانكم وإرادتكم وصبركم وثباتكم وجهادكم ومقاومتكم .
وكذلك، الشيطان يخوفكم بحصاره وعقوباته وارهابه الاقتصادي والمالي، يخوفكم بقدراته وامكاناته وقوته وقوة أولياءه وأدواته، فيحرضهم عليكم ويستنهضهم لمواجهتكم، ويسخر اعلامهم وكتابهم واقلامهم ضدكم، ولكنه لن ينال منكم، ولن يستطيع ان يخيفكم، او ان ينال من ايمانكم وارادتكم وصبركم وثباتكم وصمودكم، لان الله معكم، ولانكم لا تخافون احدا مهما كانت قوته وجبروته الا الله ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَـانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَآءَهُ، فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مَّؤْمِنِينَ﴾
في احدى معارك المسلمين التي عرفت في التاريخ بغزوة “حمراء الأسد”، كان المشركون والقوى الشيطانية المتحالفة معهم، يمارسون حربا نفسية على المسلمين، ويوسوسون ويخوفون المسلمين من قوّة قريش وبأس جيشها لإضعاف معنويات المسلمين وتثبيطهم وشل ارادتهم ودفعهم نحو الاستسلام، لكن هذه الوساوس لم تكن لتخيف المسلمين، وإِنما كانت تؤثر في أتباع الشيطان وأوليائه وادواته وحلفاءه ، وأمّا المؤمنون الثابتون الصابرون فلم تزل أقدامهم امام هذه الوساوس وامام الحرب النفسية اطلاقا، فلم ترعبهم وساوس الشيطان ولن تخفهم أبداً، ولم تزلزل أو تزعزع إِيمانهم.
والتّعبير عن هؤلاء بــ “الشّيطان” لكون عملهم من عمل الشيطان وبايحاء وتوجيه من الشيطان ، لأن القرآن يعتبر كل عمل قبيح يضر بمصالح الناس هو عمل شيطاني، لأنه يتم بوسوسته ، ويصدر بايحاء وتوجيه منه لاتباعه وحلفائه.
والمقصود بالشّيطان هم نفس هؤلاء الاتباع والادوات، فيكون “هذا المورد” من الموارد التي يطلق فيها اسم “الشّيطان” على النموذج الإِنساني ، لأن للشيطان معنىً واسعاً يشمل كل مضل ومنحرف وموسوس وغاو، إِنساناً كان أم غير إِنسان كما في قوله تعالى في سورة الأنعام الآية (112): (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإِنس والجن).
فالقران الكريم ينبه المؤمنين من الاستسلام للشياطين سواء كانوا من الانس او من الجن ويحذرهم من الخوف منهم (فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مَّؤْمِنِينَ) .
الإِيمان بالله والخوف من غيره لا يجتمعان، والمؤمن لا يخاف الا من الله، لا يخاف لا من اميركا ولا من قوتها وامكاناتها وارهابها ولا من حصارها وعقوباتها، فإذا خاف أحد من غير الله بان خاف من الشيطان وادواته، من اميركا واسرائيل وحلفائهما، كان ذلك دليل على ضعف إِيمانه وتأثره بالوساوس الشيطانية، لأنّنا نعلم أنّه لا ملجأ ولا مؤثر بالذات في هذا الكون العريض سوى الله الذي ليس لأحد قدرة في مقابل قدرته ولا لاحد عظمة في مقابل عظمته.
وأساساً لو أن المؤمنين قارنوا وليهم (وهو الله سبحانه) بولي المستكبرين والمشركين والمنافقين (الذي هو الشيطان) لعلموا أنّهم لا يملكون تجاه الله أية قدرة، ولهذا لا يخافونهم قيد شعرة.
والخلاصة: حيثما كان الإِيمان كانت معه الشجاعة والشهامة والصمود والثبات والصبر والارادة القوية والاستعداد للتضحية والثقة بالله سبحانه في انه لن يتخلى عن عباده المؤمنين المجاهدين الاوفياء مهما كانت ظروفهم صعبة وشاقة ومهما واجهوا من تحديات ومعاناة ومصاعب، فان بعد الشدة الفرج والنصر .
اليوم لبنان بكل أطيافه ومكوناته حكومة وشعبا ومؤسسات وقوى سياسية مطالب بالعمل على كسر الحصار الاقتصادي والمالي الامريكي المفروض على بلدنا، لان هذه الحرب دخلت الى كل بيت في لبنان وتداعياتها تنعكس على الجميع بلا استثناء.
وكسر الحصار الاقتصادي يكون بالمقاومة المجتمعية، والجهاد الزراعي والصناعي الذي دعى اليه سماحة الامين العام السيد حسن نصرالله حفظه الله مؤخرا، والتوجه نحو الدول التي تمد يدها لمساعدة لبنان وتبدي استعدادها للتعاون مع لبنان لمعالجة ازماته، كالصين والعراق وايران وغيرها من الدول، وان كان ذلك لم يعجب اميركا، لان مصلحة لبنان فوق المصالح الامريكية.
ولذلك المطلوب اليوم لكسر الحصار وجود إرادة رسميّة وسياسيّة وشعبيّة تُقدم مصلحة لبنان الوطنيّة والاقتصاديّة على أي مصلحة أخرى، وترفض الاملاءات الأمريكيّة والالتزام بقانون قيصر باعتبارهما يتعارضان مع مصالح لبنان، وتسارع إلى قبول العروض والمبادرات الصينيّة والايرانية والعراقية وغيرها، وتنهض بالقطاعين الزراعي والصناعي، كخيارات متوافرة للإنقاذ وحل أزمات البلد.
والحمد لله رب العالمين.
المصدر: موقع المنار