أمّا وقد صار حزب الله، في عرف دول مجلس التعاون الخليجي، على «لائحة المنظمات الإرهابية» لديها، فإنّ هذا الإدراج لا يعني على المستوى العملي القانوني شيئاً. مفهوم «الإرهاب» ولوائحه لا قيمة له الا في سياق منظومة قانونية تفرض نفسها عبر القوة والأساطيل، وتتحكم بالمصارف والإقتصاد في العالم، فيكون لتصنيفاتها معنىً ونتائج وعواقب؛ أما القرار الخليجي، فهو لا يضيف شيئاً الى سابقيه الأميركي والإسرائيلي بملاحقة حزب الله، مع فارق أنّه شكليّ وإعلامي أساساً.
على الهامش هنا، فإن استخدام لغة «الإرهاب»، وقوانينه ولوائحه من جانب بعض دول الجنوب، وبخاصة حلفاء الإمبراطورية الدونيين، هو عادة رائجة لمن يريد أن يشعر بأنه جزء من «المنظومة العالمية»، أو يحسّ بالأهمية والوزن بمجرّد تقليده لغة سيّده وشكلياته.
هذه الممارسة لها ايضاً صداها لدى مثقفين عرب ما زالوا يصرّون على أخذ المفهوم الغربي لـ «الإرهاب» بجدية، وتحويل «مكافحة الإرهاب» الى ثقافة، كأن المسألة قانونية وليست أخلاقية، وكأن هناك تعريفاً واضحاً وغير مسيّسٍ للإرهاب (هل يُعتبر قصف محطة كهرباء اسرائيلية خلال حرب، أو منصة غاز، وهي أهداف «مدنية» بالكامل، إرهاباً؟ وإن كان ضربها سيردع الصهاينة عن قتل آلاف اللبنانيين، فهل الأصح تجنّب ذلك لعدم الوقوع في دائرة «الإرهاب»؟). هؤلاء تقوم فكرتهم على خرافتين: أنّ الغرب سيتسامح معك ويقبل بك، ويشرّع مقاومتك ولا يعتبرك ارهابياً، اذا ما التزمت «خطاباً صحيحاً» معيناً يطلبه منك؛ و ــــ ثانياً ــــ أن الحرب، وهي ميدان المواجهة والعداوة القصوى، حيث تكون حياتك ووجودك على المحكّ، لا مجرّد مصالح ومكاسب، من الممكن أن تدار وتحدّ بقوانين.
الّا أن القرار الخليجي سيتبدى، أكثر ما يظهر، في الإعلام، وفي الهجمات المنظمة ومواقف الصحفيين والمثقفين ورجال الأعمال ذوي الصلات الخليجية (أي الأكثرية)، فالموضوع، بالنسبة الى مموليهم، لم يعد يحتمل الهوامش والمزاح. غير أن هذا البعد الإعلامي نفسه ليس بالغ الأهمية، فالحملة مستعرّة منذ عام 2006 ولا مجال لتصعيدها، وايضاً لأنّ القدرات الخليجية هي في حالة انكماشٍ مع تهاوي أسعار النفط. هناك جيلٌ من الإعلاميين العرب الشباب يعتقد، على ما يبدو، أن التمويل النفطي كنزٌ لا قعر له، ولم يعاصر مرحلة الإنكفاء المالي الخليجي في التسعينيات، وإغلاق الكثير من المطبوعات العربية. هذه العقلية تبدّت خلال أزمة الزميلة «السفير»، والمشهد المخجل لإعلاميين يعملون في صحفٍ لأمير، أو لدى الحكومة الأميركية، وهم يزهون ــــ في وجه صحفيين وعمّال ارتضوا، عن خيار، الرواتب القليلة والحياة الصعبة حتى يكونوا كرماء أمام أنفسهم، ويعرفون جيداً كلفة أن تقف في وجه الخليج وسطوته وخارج دائرة كرمه ــــ ويحاضرون عليهم في المهنية والتمويل و»قواعد السوق» (و»الشماتة عبر التضامن» أوقح، خاصة حين تمارسها مع من لا يريد أن تمنّ عليه بـ»تضامنك»، بل أن تصمت، ببساطة).
المفارقة هنا هي أن هؤلاء، الذين تقوم كلّ ثقتهم بالنفس ومنبرهم الذي يعطيهم صوتا، وحياتهم المهنية واستهلاكهم الشخصي وطموحهم الطبقي، على عطية من أمير قطري، مثلاً، لا يكلّفون أنفسهم متابعة أخبار الإقتصاد القطري والميزانية والوضع المالي للبلد الذي يمولهم (لو كنت مكانهم، لكان ذلك أول ما أقرأه كلّ صباح). وهم لا يعرفون، على ما يبدو، بأنّ العديد منهم قد يصير بلا عملٍ خلال أشهر، ولن يتبقّى من يدفع له حتى يهاجم حزب الله (وفي لبنان تحديداً، لا يعترف البعض بأنّ «الاستثمار السياسي» الذي تدفق على البلد بعد عام 2005، لغرض معيّن وأهداف محددة، وأدى الى انتفاخ قطاع الإعلام و»ازدهاره» وتمويل عشرات «النجوم الشباب»، قد انتهى وانقطع. وهو سببٌ لأزمة الصحف قد يكون أكثر أهمية من عادات القراءة أو علاقة الناس بالورق).
أمّا الجانب الأهمّ للتصنيف الخليجي لحزب الله، فهو على المستوى السياسي، ويرتبط بدينامية العلاقة بين حزب الله والخليج، وطبيعة دوره في المنطقة. لسنوات بعد الحرب الأهلية، كانت «لعبة نفاق» تدور بين الضاحية وعواصم الخليج، وبينهما نظام «الطائف»: الخليج يعترف بالمقاومة اللبنانية ــــ حصراً وهي تقاتل في الجنوب ضد الإحتلال ــــ بينما يحاربها في الخفاء، ويخطط لمحاصرتها وإخمادها، ويمنع توسّعها أو تحولها الى نموذج في المنطقة. في المقابل، كان حزب الله، وهو على دراية بالموقف السعودي ــــ وقد صار علنيا بعد 2006 ــــ يحافظ على علاقاته بالرياض ويتحصن باتفاق الطائف ودوره في النظام اللبناني.
بهذا المعنى، فإن المأخذ الحقيقي على الحزب، طوال هذه الفترة، هو تماماً ما يأخذه نقاده عليه اليوم («تدخله» في شؤون المنطقة، خروجه من لبنان، القتال في سوريا والعراق). لا يمكن لحركة مقاومة أن تصير «حركة تحرر وطني» وهي تحصر دورها في التحرير العسكري لتراب لبناني محتلّ، على أهمية ذلك، ولا تتوجه ضدّ النظام السياسي الأوسع (محلياً واقليمياً) الذي يسهّل الاختراق الغربي، ويضرب المشاريع الوطنية، ويجعل الإحتلال ممكناً؛ والمواجهة مع هذه القوى ــــ بعد 2003 والغزو الأميركي المباشر ــــ لم تعد تحتمل التأجيل.
بهذا المعنى، على القادة الخليجيين أن يقرأوا جيداً خطاب السيد حسن نصرالله في أول هذا الشهر عن حرب اليمن، وهو كان، على الأرجح، الخطاب الأهم للأمين العام لحزب الله منذ سنوات، وإن لم ينتبه الجميع الى مغزاه ورموزه. الهجوم الذي شنّه نصرالله على السعودية لم يكن مجرّد «تصعيد» لفظي، ومكان الحزب من حرب اليمن لم يتم تقديمه كموقفٍ سياسيّ «عادي»، آني ويرتبط بحسابات ظرفية. قول السيّد بأنّ موقفه من اليمن كان «أفضل ما فعله في حياته»، ومقارنته مظلومية اليمن بحالة فلسطين، والحرب السعودية بحرب تمّوز كان تقديماً لما أسماه الزميل علي حيدر «تأصيلاً شرعياً» للمواجهة مع النظام السعودي.
لم يقل السيد ان الوقوف مع اليمنيين في محنتهم هو أمرٌ أخلاقي وجيّد، بل وضعه بمرتبة الواجب الديني، موضحاً أنّ إسلامه لا يكتمل إن لم يكن في هذا المكان، وأن القرار ينبع من «انتمائي(ه) الى محمّد … والى كتاب الله»، وأنّ موقفاً مغايراً كان سيعني أن «ليس لنا دخل لا بالنبي ولا بالقرآن ولا بالعترة ولا بالحسين» (يجب أن نتذكر هنا أن السيد نصرالله هو رجل دين، ويعني ما يقوله في هذه المواضع). هكذا، صار حزب الله «إرهابياً» في عرف الخليج، وهو ــــ بالفعل ــــ لم يعد حركة تقاتل في تلال الجنوب، بل صار في العراق وفلسطين وسوريا واليمن، فمن حقّهم أن يغضبوا، وجدير بهم أن يقلقوا.