التقارير الواردة إلينا من مدينة غزة تؤكد لنا أن ما سمي بتفاهمات ليس إلا خطوات بعضها جرى تنفيذه، والبعض الآخر مازال في إطار الوعود، هدفها تخفيف الحرمان عن أهالي القطاع، وتخفيف إجراءات الحصار الإسرائيلي.
فالقضايا تتعلق بالكهرباء، والدواء، والاستشفاء، وتوسيع دائرة الاستيراد والتصدير، ومد مساحة الصيد البحري لصيادي القطاع، وتقديم مساعدات مالية، هدفها العائلات المنكوبة، وتوفير ثمن وقود محطة الكهرباء ووقود المستشفيات، وتوفير فرص عمل مؤقتة لآلاف الشبان العاطلين عن العمل، وتنشيط التجارة بين القطاع والخارج، وإسقاط المنع عن العديد من المواد مزدوجة الاستعمال، كالخشب والأنابيب، وغيرها.
أي باختصار شديد، خطوات لصالح إنعاش الوضع المالي والاقتصادي والاجتماعي لقطاع غزة، الخاضع لحصار مديد منذ حكومة هنية الأولى مطلع العام 2006.
ولا نعتقد أن موافقة الجانب الإسرائيلي، بالتعاون مع القاهرة، وممثل الأمم المتحدة، لإنجاز هذه الخطوات، كانت مجانية بل لقد دفع الشعب الفلسطيني في القطاع الثمن غالياً، ليس خلال السنة الفائتة، (الاولى) من عمر مسيرة العودة وكسر الحصار، بل ومنذ سنوات أطول بكثير؛ في صموده أمام الحملات الدموية الإسرائيلية، حملة وراء أخرى، وصموده في مواجهة الجوع والبرد، والحصار، والبطالة وغير ذلك من الضرائب الباهظة التي دفعها من سني عمره وعمر شبابه ورجاله ونسائه وأطفاله.
وبالتالي يستحق قطاع غزة ما تمّ الاتفاق عليه في إطار ما سمي، مجازاً، بالتفاهمات (وهي مجرد مشاورات شفوية لم ترق إلى مستوى التفاهمات أو الاتفاقات المكتوبة). وما جرى تقديمه له حتى الآن، ليس إلا جزءاً من حاجاته الفعلية، خاصة وإن القطاع، إذا ما استمر حاله على ما هو عليه، وفقاً للدراسات، لن يعود صالحاً للسكن في العام القادم.
التقارير تؤكد أن إسرائيل لم تسهم بقرش واحد في مشاريع تخفيف الحرمان والحصار عن القطاع. بل يمكن القول إن بعض الإجراءات، وبفعل بروتوكولات باريس الاقتصادية، كانت لصالحها، مثل زيادة رخص الاستيراد، ورفع عدد شاحنات الاستيراد إلى 1200 شاحنة وهذه كلها توفر لإسرائيل جباية مالية إضافية.
وأن موافقة الجانب الإسرائيلي على هذه الإجراءات، ليست دليلاً على حسن النوايا، ولا على تغيير في نظرة إسرائيل لقطاع غزة. فالقطاع، بالنسبة لحكومات إسرائيل، يتمثل خطره في أنه قاعدة المقاومة الفلسطينية المسلحة، التي تشكل حسب، تقديراتها، خطراً على العمق الإسرائيلي، (بسبب الصواريخ بعيدة المدى) وعلى المستوطنات المجاورة للقطاع (غلاف غزة).
كما تدرك إسرائيل أن تزايد الاحتقان في القطاع، من شأنه أن يقود يوماً ما إلى انفجار، تكون له تداعياته على «الجوار الإسرائيلي». وهذا ما يفسر لماذا لجأت أحياناً إلى تهديد القيادة الرسمية الفلسطينية باستعداد سلطة الاحتلال لاقتطاع رواتب موظفي غزة من أموال المقاصة، وتحويلها إلى القطاع عبر الأمم المتحدة، رداً على إجراءات السلطة الفلسطينية في منع الرواتب عن آلاف الموظفين في القطاع. حتى في هذه الحالة تكون إسرائيل قد «حلت» الموضوع دون أن تتكبد فلساً واحداً، بقدر ما تكون قد قدمت نفسها في موقع إنساني «مزيف» وأسهمت في إدامة الانقسام، باعتراف رئيس حكومة تل أبيب بنيامين نتنياهو.
في الوقت نفسه، يحتاج نتنياهو إلى مكاسب، يستثمرها في معركته الانتخابية. اعتراف ترامب بضم الجولان مكسب. وضمان وقف الصواريخ نحو تل أبيب مكسب آخر. ووقف البالونات الحرارية والطائرات الورقية مكسب ثالث. لكن هذه المكاسب، في شقها الفلسطيني، لم تقدم مجاناً، بل مقابل تخفيف الحصار. وعلينا ألا ننسى أن مسيرات العودة وكسر الحصار، لم تطلق، بالثمن الباهظ الذي دفعه الشعب في غزة، إلا من أجل كسر الحصار عبر تخفيفه مرحلة وراء مرحلة. وخطوة وراء خطوة. دون أن يراودنا الوهم أن إسرائيل سوف ترفع الحصار نهائياً عن القطاع. إذ مادام القطاع قاعدة للمقاومة، ومادامت المقاومة تستطيع أن تطال العمق الإسرائيلي، ومادامت المقاومة تلعب دوراً فاعلاً في الصراع مع إسرائيل، فإن الحصار الإسرائيلي لن يرفع نهائياً، وعمليات الاستطلاع لن تتوقف بشكل كامل، فإسرائيل وإن كانت تقايض، حيث تجد لها مصلحة في المقايضة، إلا أنها لن تتخلى عن أوراق القوة في الصراع. والحصار على القطاع، ورقة قوية من هذه الأوراق.
هل هذا معناه أن القطاع قد خرج من المعركة ضد الاحتلال؟ وهل معنى هذا أن القطاع بات على انفصال نهائي مع الضفة الفلسطينية؟ وهل معنى هذا أن خطوات تخفيف حرمان القطاع تندرج في تطبيق «صفقة ترامب»؟
نجزم أن مثل هذه الأسئلة، مفتعلة، ولا تنتمي إلى الواقع الحقيقي للمسألة الفلسطينية بصلة. ويمكن أن نرد على هذا بالتالي:
• أولاً: هذه الإجراءات كلها، لن تحل كل مشاكل القطاع، بل من شأنها أن تخفف من حرمانه ليس إلا. وبالتالي سيبقى النضال مفتوحاً من أجل شروط حياة كريمة وأفضل.
• ثانياً: إن هذه الإجراءات هي حق من حقوق القطاع ولا يمكن لأي طرف أن يقدمها له باعتبارها تنازلات في مفاوضات سياسية.
• ثالثاً: إن هذه الإجراءات، وإن خففت من الحرمان، إلا أنها لم ترفع الحصار عن القطاع. وسيبقى تحت الحصار حتى إشعار آخر، مادام يشكل قاعدة للمقاومة الفلسطينية المسلحة.
• رابعاً: لا تنحصر القضية الفلسطينية في مسألة حصار القطاع، بل هي في الاحتلال الإسرائيلي. ومادام الاحتلال قائماً، بإجراءاته المعروفة، ستبقى العلاقة بين القطاع وإسرائيل علاقة صراع، وإن كان هذا الصراع قد لا يأخذ في المرحلة القادمة طابعه العسكري. لكنه صراع في إطار حالة سياسية لم تتغير في جوهرها ولا في ظاهرها.
• خامساً: لا يمكن الفصل على الإطلاق بين القطاع والضفة، أو بين القطاع والشتات، أو بين القطاع ومناطق الـ48. فالصراع مع الاحتلال، ولأجل الحقوق الوطنية، من شأنه أن يوحد الشعب الفلسطيني رغم التباعد الجغرافي، ورغم تباين الظروف وتعدد السلطات. إذ لا يمكن للقطاع وقواه السياسية والمجتمعية وفصائل العمل الوطني فيه أن يقف مكتوف الأيدي، متفرجاً على ساحات المعارك والصدام مع الاحتلال. تأكيداً على ذلك أن مسيرات العودة وكسر الحصار، [مسيرات الاحتكاك والصدام مع الحدود] سوف تتواصل بالزخم نفسه. أما الحديث عن ضرورة توفير إجراءات السلامة للمشاركين، فهذا أمر لا يقلل من أهمية المسيرات ومضمونها السياسي، إذ ليس الهدف من المسيرات أن نقدم الشهداء أو نضحي بالجرحى، بل أن نشكل ضغطاً سياسياً على إسرائيل وعلى المجتمع الدولي. وها هي أكدت صحتها كأسلوب كفاحي في إطار المقاومة الشعبية.
في كل الأحوال، مازالت القضية في إطار المشاورات، ورسم المشاريع، أما توفير الموازنات والأموال لهذه المشاريع فهذه معركة أخرى ستبقى ملقاة على عاتق القطاع وقواه السياسية. دون أن نغفل قضية مهمة لا بد من العودة إليها سريعاً: إحياء مشاورات ومباحثات إنهاء الانقسام.
المصدر: بريد الموقع