ألقى السيد جعفر فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين في حارة حريك، واعتبر ان المشهد في الأسبوع الماضي تصدر فيه حدثان بارزان الأول هو التصعيد الصهيوني ضد غزة، والثاني هو اعتراف الرئيس الأميركي بسيادة كيان العدو الصهيوني على الجولان السوري المحتل، ولعل دلالات الحدث الثاني تتيح لنا فهم دلالات الحدث الأول، هذا التوقيع يبرهن مجددا أن السياسة الخارجية الأميركية في المنطقة هي سياسة إسرائيلية، وأنه لم يعد لمقولة الأرض مقابل السلام من قيمة، وأن كل المشاريع والخيارات المتاحة أمام الشعوب – حسب هذه السياسة – هو ما يصب في مصلحة الكيان الغاصب، وعلى وقع ذلك المنطق تتحدد الخطوط الحمراء والصفراء، ويتحدد العدو والصديق، أو المعتدل والمتطرف”.
وأضاف وفق هذا المنطق، تصبح الديكتاتورية ديمقراطية إذا اتجهت نحو التطبيع مع الكيان الصهيوني، وعلى أساسه نجد ثورة شعبية مقبولة وأخرى تجير ضدها كل الأسلحة، وهذا المنطق هو الباب الذي يغذي الحروب الأهلية والصراعات بين الدول العربية والإسلامية، ويغطي الإبادات الجماعية والتدمير الممنهج للبنى التحتية في هذا البلد أو ذاك، وهو العامل الرئيس الذي يطلق يد الجماعات الإجرامية لتفتك بما تبقى من بلد هنا أو هناك، وهذا المنطق هو الذي يشرع أن تهجر شعوب، أو تدفع أخرى لتهاجر، وهو نفسه السبب الذي يمنع فيه النازحون من العودة إلى بلادهم.
وبهذا المعنى تتحول مقاومة الاحتلال إلى إرهاب يجب محاصرته والقضاء عليه، ووفقه يأخذ الإرهاب صفة المقاومة، وبه تحاصر دول وتطلق اليد لتقويض أنظمتها وتضرب اقتصاداتها وتمنع من استثمار ثرواتها، وبه أيضا تحفظ أنظمة تفتقر إلى الحد الأدنى من المأسسة والتحضر، وبسبب ذلك، تشرع الحرب على غزة، ويستمر العمل على تهويد القدس والأقصى، وتبنى المستوطنات في الضفة الغربية، وتباد قرى بأكملها”.
وتابع”كل هذا له توصيف واحد، وهو أن منطق الشرعية الدولية أصبح باليا، وأن مصالح القوي هي التي تحدد القيم التي على الآخرين أن يذعنوا لها، وإلا فعليهم أن يذوقوا نار الفتن الداخلية والحروب الحارقة، والتدمير الممنهج”.
واشار الى انه “ما ينبغي التوقف عنده ان على النظام العربي الرسمي أن يعيد النظر في منطق الاستجابة لمطالب هذه الإدارة الأميركية، لأن ذلك في الحقيقة يمثل تسليما للسياسة الإسرائيلية في المنطقة؛ وتعايشا مع واقع الاحتلال والتخلي عن الحقوق. هذا كله يفترض أن تكون القمة العربية المقبلة وقفة مراجعة ذاتية حقيقية بعد كل هذه الانزلاقات من أوسلو وإلى الآن، وإلى صياغة بديل سياسي يعيد الاحترام والاعتبار للنظام السياسي العربي على قاعدة التمسك بالمبادئ والحقوق”.
ورأى أن “لا خيار للنظام العربي الرسمي سوى الارتقاء إلى مستوى شعوبه، والعمل على تطوير البنى العربية الاجتماعية والسياسية لتحتضن كل أبنائها، والكف عن سياسة تضخيم المخاوف من التنوع التي تزيد من حدة الحواجز النفسية في مجتمعاتنا، لحساب احتضان جميع المكونات المذهبية والعرقية والسياسية والثقافية، في إطار دولة الإنسان. دولة المواطنة، التي تحفظ الوحدة الوطنية التي لا زالت المشاريع الخارجية تستهدفها”.
ودعا “شعوب المنطقة العودة إلى الهويات الجامعة؛ فالمذاهب الإسلامية لا بد من أن ترجع إلى عنوانها الإسلامي الجامع، وأن تتحرك المؤسسات الدينية والحركات الإسلامية العاقلة في سبيل إعادة برمجة العقل الإسلامي لكي يتحرك في الفضاء الرحب للإسلام، بدلا من التعبد بصنميات العصبيات المذهبية البغيضة. وما نقوله للمسملين، نقوله كذلك لأهل الديانات، ولا سيما المسيحية، التي تنتمي إلى هذه المنطقة وقضاياها قيميا وتاريخيا وحاضرا ومستقبلا. وكذلك لا ينبغي أن نكابر في التنكر لحقائق التاريخ والجغرافيا في تحديد ضرورة التقارب بين دول المنطقة على قاعدة الإسلام أو العروبة أو حتى على قاعدة المصالح السياسية”.
ورأى انه “لا بد لحركات الحرية في المنطقة أمام ضخامة التحديات، والتي تمتلك التأثير الأكبر على الشعوب، أن تعيد الحرارة إلى القضية المركزية للأمة، وأن ترتقي برامجها لتوسيع دائرة احتضان القضية الفلسطينية، لأن مهمة التحرير تحتاج إلى جهود الجميع، سيما وأن هذه المهمة باتت هي نفسها مهمة حفظ الوجود والذات، الأمر الذي يتطلب أيضا تجاوزا لمنطق الكيانية والقطرية الذي أثبت أنه عاجز عن حفظ الحقوق وحماية الكيانات والأقطار العربية”.
وقال”نعم إن فلسطين اليوم قضية وجود؛ وكل ما عانيناه في السنوات الماضية هو بسبب ابتعادنا عنها، حتى أضعنا ميزان العدو والصديق، فتهنا ولا نزال تائهين”.
واعتبر أنه “استنادا إلى ذلك، ليس أمام الشعوب سوى العمل على تفعيل استراتجية مواجهة التحدي الصهيوني المدعوم خارجيا بعد أن حدد أهدافه بوضوح، ووضع الشعوب إما أمام خيار الخضوع والاستسلام وإما المواجهة، وهذه الاستراتيجية لا بد أن تشمل إلى المقاومة الشعبية بأشكالها كافة، ومواجهة سياسات التحكم الخارجي بالاقتصاد، مواجهة ما بات يعرف بالحروب الناعمة التي تستهدف مفاهيمنا وقيمنا ونظمنا، ومواجهة مشاريع تختبئ تحت شعارات الإصلاح والتقدم عبر الكثير من المنظمات والجمعيات التي تختفي تحت أكثر من عنوان براق”.
وتابع “اننا عندما نتحدث عن مقاومة، انما نتحدث عن حفظ الوجود الحاضر وحماية المستقبل القادم، ما يوجب علينا عن تفعيل الإرادة في المواجهة، بكل ما يعنيه ذلك من صبر على الآلام والحرمان والتهديد والضغط، وتحويل كل هذا إلى فرصة للنهوض، ونحن لا نتحدث هنا عن أمنيات إنما ننطلق من وقائع الصمود والانتصارات على العدو الصهيوني ومشاريعه في أكثر من ميدان، لنراكم عليها المزيد من الإنجازات على طريق استعادة الأرض والحقوق”.
وأضاف “أما في لبنان، فلا مجال لنا إلا العمل، والذي يقوم على مبدأ الوفاء بالعهود التي قطعها السياسيون في محاربة الفساد والحد من الهدر ووضع المشاريع التنموية على خط التطبيق، وتقويم الأمور على أساس المصلحة الوطنية، وعدم التصرف على قاعدة المناكفات وتسجيل النقاط، والاستقواء بالخارج على الداخل، بما يؤدي إلى رهن البلد لمشاريع نعرف أنها لا تصب إلا في مصلحة العدو الصهيوني”.
واوضح ان “اللبنانيين معنيون أن يكونوا هم ولو لمرة، فيحددوا للمرة الأخيرة ما الذي يبني هذا الوطن، وما الذي ينهض باقتصاده، ويحقق أمنه، ويصون وحدته، وعندئذ لن ينقصه إلا إرادة الأقوياء التي تحرك الأدوات الكثيرة التي نمتلكها في سبيل تحقيق الأهداف التي لن تصب إلا في خدمة الوطن كله، بكل أبنائه”.
المصدر: الوكالة الوطنية للاعلام