﴿وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّـهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا﴾. [سورة النساء، الآية: 107].
الخيانة هي نقيض الأمانة التي تحدثنا عنها الاسبوع الماضي، وخيانة الامانة تكون بالتهاون والتفريط بها والتقصير بحفظها أو بالتصرف فيها بدون اجازة صاحبها أو بإنكارها وسلبها اذا كانت أمانة مالية.
والخيانة هي من المعاصي والذنوب الكبيرة, وقد حذّر القرآن من الوقوع في الخيانة مطلقا سواء كانت مالية ام غير مالية، وسواء كانت الخيانة لشخص مؤمن ومسلم ام كانت لكافر، وسواء كانت لصديق أم لخصم، الخيانة مرفوضة اتجاه أي كان وأيا كان شكلها، لأنها ليست من اخلاق المؤمنين ولا ينبغي أن تصدر من مؤمن، يقول تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون ) الأنفال آية 27
وعن أمير المؤمنين عليه السلام:رأس الكفر الخيانة.
وعنه(ع): رأس النفاق الخيانة.
وعنه(ع): جانبوا الخيانة فإنّها مجانبة الإسلام.
وعن الإمام الباقر(ع) أنه قال: «إنّ المؤمن لا يخون»، سواء كانت تلك الخيانة خيانة مال، أو عرض،أو إفشاء سرٍّ، أو خيانة في العمل، او خيانة للأمة . وعن أمير المؤمنين أنه قال: «إيّاك والخيانة فإنها شرّ معصية»، فلا معصية توازي معصية الخيانة.
ونهى النبي(ص) عن خيانة من يخونك لانه لا ينبغي ان تصدر الخيانة من المؤمن مطلقا حتى مع الخائن لأمانتك لأن الله لا يريد ان تكون خائنا مثله ولا ان تشبه شخصيتك شخصيته وتحمل نفس الصفات التي يحملها الخائن. فقد ورد عن النبي(ص) أنه قال: «لا تخن من خانك، فتكون مثله».
وللخيانة أشكال متعددة:
منها: الخيانة المالية بأن يجري التصرف في المال المؤتمن عليه مثلا، أو التفريط في الحفاظ عليه مما يؤدي لضياعه او تلفه.
ومنها: الخيانة في العرض، وذلك بأن يأتمن إنسان انسانا آخر على عرضه، على زوجته وبناته وسائر أهله، فيسوّل الشيطان لهذا الانسان أن يخون تلك الأمانة، ويتصرف تصرف السوء، بدلًا من أن يحافظ على عرض الرجل.
ومنها: خيانة السّر، وذلك بإفشاء أسرار الآخرين الذين يأتمنونه على أسرارهم، سواء كانت اسرارا شخصية او اسرارا متعلقة بالعمل او عسكرية او امنية فقد ورد عن النبي(ص) أنه قال: «إفشاؤك سِرّ أخيك خيانة، فاجتنب ذلك»، ويشمل ذلك جميع الخصوصيات التي لا ينبغي للآخرين الاطّلاع عليها، فلا يجوز نشر خصوصيات الآخرين والتحدث عنها بين الناس وعلى وسائل التواصل الاجتماعي.
وقد تكون الخيانة في الإخلال بأداء العمل، أو القيام بالوظيفة على غير الوجه المطلوب، والأداء غير المناسب، كما لو تم الاتفاق مع مقاول او مع مهندس على تنفيذ بناء وفق مواصفات معينة، فإذا أخلّ بالاتفاق ولم يحقق المواصفات المطلوبة، فإن ذلك يعد خيانة وهكذا اذا الطبيب اعطى وصفة غير مناسبة للمريض وهو يعلم بذلك فان ذلك يندرج تحت عنوان الخيانة ايضا، وهكذا أيّ عامل في أيِّ مجالٍ من المجالات لا يقوم به الانسان بالشكل المطلوب منه والمتفق عليه يعد خيانة.
وقد شددت الروايات على حسن أداء العمل واتقان العمل والقيام به على الوجه المطلوب. فقد ورد أن أمير المؤمنين(ع) وقف ذات يوم على خيّاط ملابس، فقال(ع): «يا خيّاط، ثكلتك الثواكل، صلّب الخيوط، ودقّق الدروز، وقارب الغرز، فإني سمعت رسول الله(ص) يقول: يحشر الله الخيّاط الخائن وعليه قميص ورداء مما خاط وخان فيه»، وهذا يدل على مدى الدقة التي ينبغي للعامل أن يتقيد بها عند أداء مختلف الأعمال، واحترام حقوق الناس.
وما ينطبق على الخيّاط، ينطبق تمامًا على العاملين في مختلف ورش العمل.
وأشد اشكال الخيانة، خيانة الإنسان لنفسه. فتارة يخون الإنسان الآخرين، وتارة أخرى يخون نفسه. وهذا ما تشير اليه الآية الكريمة التي تلوتها في بداية الحديث وهي قوله تعالى: ﴿وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً﴾، والتشديد في قوله سبحانه: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً﴾، يدل على ان الله سبحانه وتعالى لا يحب الخيانة مطلقا وفي كل الأحوال، سواء وقعت بحقّ الآخرين، أم ارتكبت بحقّ النفس. وفي آية أخرى: ﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ ..﴾.
ولكن كيف يخون الإنسان نفسه؟ وهو الذي يفترض به أن يحفظ نفسه، ويرعاها ويحميها من كل شر ، ويجلب المصالح لها ويدفع الأضرار عنها، لأن النفس أمانة عند صاحبها، فاي تقصير بحقّها يعتبر خيانة توازي خيانة الآخرين في اموالهم واعراضهم واسرارهم واعمالهم. فمتى يعتبر الانسان خائنا لنفسه ؟.
هناك العديد من المصاديق لخيانة النفس:
أولا: التقصير في تزكية النفس وتطهيرها وتربيتها على الايمان والتقوى والقيم والأخلاق، وتنمية قدراتها وكفاءاتها، فاذا قصر الانسان في ذلك يصبح خائنًا لنفسه، وإذا أهمل الانسان نفسه ولم يطورها ولم يعمل على تزكيتها وتهذيبها كان خائنًا لنفسه.
ثانيا: التفريط بمصير النفس وبمستقبلها في الأخرة خيانة لها ايضا، فاذا كان الإنسان يعرف بأنّ حياته محدودة وقصيرة وسيدركه الموت وسيقف بين يدي الله للحساب، ولم يبادر الى العمل والتزود بالطاعات فان ذلك يعتبر خيانة للنفس. ادراك الانسان بانه ليس مخلدا في الدنيا وانه سيموت عاجلا أم آجلا يجب ان يدفع الانسان نحو استثمار كلّ ثانية من عمره ليبني مستقبله في الآخرة وليبني جنته، لانّ نجاة الانسان في الآخرة يحتاج إلى العمل الصالح ، وعمل الخير، وخدمة الناس، والتضحية بالمال والنفس في سبيل الله، فإذا غفل الانسان عن واجباته وفرّط في استثمار حياته، ولم يعمل لآخرته فقد خان نفسه.
يقول تعالى: ﴿وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَـٰئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُم بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ ﴾[سورة الأعراف الآيتان 8 – 9]، يعني من ثقلت موازينه بالأعمال الصالحة والطيبة فقد فاز، واما من خفت موازينه ولم يكن رصيده كبيرا في الآخرة فتلك هي الخيانة والخسارة الكبرى. ولذلك على الانسان ألّا يفرط في عمره وان يستغل هذا العمر فيما ينفعه في الآخرة. وقد ورد أمير المؤمنين(ع) أنه قال: «إِنَّهُ لَيْسَ لِأَنْفُسِكُمْ ثَمَنٌ إِلَّا الْجَنَّةَ فَلَا تَبِيعُوهَا إِلَّا بِهَا»، فلا ينبغي أن يبيع الإنسان نفسه بأيِّ ثمن سوى الجنة، ولا يليق بالانسان المؤمن أن يرى أيامه تمضي من دون ان يبادر لما ينفعه في الآخرة.
ثالثا: تعريض النفس للمهانة في الدنيا والعذاب في الآخرة. فإن كلّ من يعرض نفسه للهوان في الدنيا أو الآخرة، فإن هذا يكون خائنًا لنفسه، يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ﴾[سورة التحريم الآية: 6].
وأعظم اشكال الخيانة هو خيانة الامة وغش الائمة، فقد ورد عن أمير المؤمنين في قوله: «إنّ أعظم الخيانة، خيانة الأمة، وأفظع الغش غشّ الأئمة».
اعظم الخيانة هي خيانة الزعماء والقادة لقضايا الامة والتفريط بمصالحها وحقوقها كما تفعل بعض الدول الخليجية اليوم اتجاه القضية الفلسطينية.
اليوم التطبيع مع العدو الصهيوني من قبل النظام السعودي والاماراتي والاتحاد معه ومع اميركا ضد ايران وضد القضية الفلسطينية هو أعظم خيانة للاسلام وللأمة ولفلسطين وللقدس وللمسجد الأقصى.
تطبيع هؤلاء مع اسرائيل وتعاونهم معها وصل الى مستويات غيرمتوقعة وهو ما صرح به رئيس وزراء العدوبنيامين نتانياهو الذي أعلن أكثر من مرة وبالأمس من على منبر الامم المتحدة عن وجود تعاون مع دول عربية لم يكن يتوقع ان تتعاون معه وطبعا يقصد المملكة العربية السعوديةالسعودية مؤكّداً أنّ هذا التعاون لم يسبق له مثيل في تاريخ إسرائيل حتّى بعد توقيعها على اتفاقيات مع بعضها.
التطبيع من قبل الأنظمة الخائنة لن يجعل من اسرائيل كيانا مقبولا لدى شعوب المنطقة بل ستبقى اسرائيل في نظر هذه الشعوب كيانا محتلا غاصبا قائما على القتل والإرهاب والعدوان وارتكاب المجازر وهي تجاهر بذلك وبالامس كان يجاهر نتنياهو من على منبر الامم المتحدة بان اسرائيل ستواصل عدوانها على سوريا وستعتدي على العراق وعلى لبنان متى شاءت .
اليوم وفي ظل ادارة ترامب، اميركا واسرائيل في اوج علوهما وافسادهما واستكبارهما وشيطنتهما وغطرستهما وهما لا يفهمان الا منطق العدوان والتهديد والوعيد والعقوبات وتحاول اميركا فرض ارادتها على العالم بكل وقاحة وصلافة، في ظل تهيب مريب من قبل المجتمع الدولي ورهبة عالمية ملفتة، حيث لا نكاد نسمع من زعماء العالم في مواجهة التصريحات والإجراءات التي يقوم بها ترامب على اكثر من صعيد سوى ردود فعل خجولة.
الاجراءات والسياسات الامريكية التي تمارسها الإدارة الأميركية هي المسؤولة عن التوتر والتصعيد في المنطقة وفي العالم، وليس أمام الدول والشعوب المستهدفة لمواجهة هذه الغطرسة وإفشال المخططات الامريكية الجديدة سوى الصبر والصمود والمقاومة ، فالمقاومة في لبنان وفلسطين وسوريا وايران واليمن وخلال كل المراحل السابقة افشلت العدوان والعقوبات والحصار والفتن والحقت الهزيمة بالمشروع الامريكي الاسرائيلي السعودي في سوريا، وخرجت ايران من حصار دام اكثر من ثلاثة عقود اكثر قوة وحضورا ونفوذا ولم تستطع كل آلة الارهاب الامريكي الاسرائيلي ان تحقق أهدافها في المنطقة او أن تثني شعوب المنطقة عن الدفاع عن اوطانها وحقوقها واليوم مهما حاولوا سيفشلون مجددا وسيصابون بالخيبة والهزيمة .
أما في لبنان فلا يجوز ان يبقى البلد أسير بعض الطموحات والرغبات الجامحة والرئيس المكلف بتشكيل الحكومة معني بوضع حد للعناد الذي تمارسه بعض الجهات السياسية المعروفة التي تطالب بأكثر من حجمها وانهاء الجدل حول الحقائب ووضع صيغة معقولة تضم الكتل الاساسية وتراعي عدالة التمثيل .
الناس لم تعد تحتمل مستوى الانحدار الذي وصل اليه البلد على الصعيد الخدماتي والاقتصادي والاجتماعي، فقد بات المواطن يشعر انه متروك لمصيره ويعيش في غابة وليس في دولة، ولذلك الاسراع في تشكيل الحكومة بات ضرورة ملحة لانقاذ البلد واعادة ثقة المواطن بالدولة.
المصدر: بريد الموقع