نحن في مئوية إتفاقية سايكس- بيكو 1916، نقتطف جزئية من النوايا البريطانية للشرق الأوسط عن تقسيم المقسَّم، عندما نصح المستشرق البريطاني- الأمريكي برنارد لويس التمهيد لسايكس – بيكو جديدة، باستخدام العنصر المذهبي، وضرورة زرع الشقاق لإستحداث البيت الشيعي والبيت السني في العراق.
جزئية من النوايا الفرنسية في تصريحٍ لمدير الإدارة العامة للأمن الخارجي في فرنسا برنار باجوليه عام 2015، في مؤتمرٍ صحفي مشترك في واشنطن مع مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية جون برينان، قال فيه: “الشرق الأوسط الذي نعرفه، انتهى إلى غير رجعة”، مشككاً في أن يعود مجدداً إلى ما كان عليه ومؤكداً، أن دولاً مثل العراق أو سوريا لن تستعيد أبداً حدودها السابقة.
وبما أن هذه الإتفاقية، التي حملت إسم البريطاني “مارك سايكس”، والفرنسي “فرانسوا- جورج بيكو”، وقَضَت بخلق كيانات على قياس الإستعمار، في العراق وسوريا والأردن ولبنان وفلسطين، بهدف تمزيق سوريا الطبيعية الكبرى، فإن احتفال المئوية إنقلب على التاريخ، من سوريا الكبرى الممزَّقة الى “بريطانيا سايكس” التي سقطت في ما أرادته للآخرين، وارتعدت حكماً “فرنسا بيكو”، لتكون مئوية سايكس – بيكو بنسخة 2016، إرتدادٌ للسيف الى نحر من حملوه منذ مئة سنة على بعض دول الشرق الأوسط.
الإستفتاء البريطاني، اعتبر البعض أن نتيجته صادمة، مفاجئة، ومحبطة للملايين داخل المملكة المتحدة وخارجها، ووصفها البعض الآخر بـ”الانتحار الوطني”، وشبَّهها الكثيرون بالزلزال وهو كذلك، لأنه في اليوم التالي بدأت الهزَّات الإرتدادية تتوالى من داخل بريطانيا، وردود فعل اسكتلندا وإيرلندا الشمالية والعاصمة لندن التي أبدت رغبتها بالإنفصال عن المملكة المتحدة والبقاء ضمن الإتحاد الأوروبي، حرَّكت الشروخ البركانية الراكدة في أوروبا، بدءاً من هولندا وفنلندا وحتى في فرنسا من خلال الخطاب الناري لزعيمة اليمين المتطرِّف مارين لوبان التي هنأت بريطانيا على قرارها ودعت الفرنسيين للتصويت على إنفصالٍ مماثل.
ونتيجة المسح الميداني للزلزال المدمِّر في الداخل البريطاني، يتبيَّن حصول إنقسام حاد الى نصفين بين المواطنين البريطانيين أثبتته نتيجة الإستفتاء: 52% للإنفصال مقابل 48% للبقاء، والبريطانيون الذي صوَّتوا للخروج من الإتحاد الأوروبي تتلو نسبة منهم فعل الندامة على ما ارتكبت عن جهلٍ منها بإيجابيات الإتحاد، لكن أبناء الطبقتين الوسطى والفقيرة ومن ضمنهم المهاجرون من الشرق الأوسط برروا خيار الإنفصال، بالخوف من المهاجرين الجدد الذين يتدفَّقون على أوروبا، خاصة أن اليد العاملة الأوروبية الشرقية والشرق أوسطية تُزاحم حَمَلة الجنسية البريطانية في السوق المهنية بأسعارٍ تصل الى النصف، لأن هذه العمالة لا تدفع ضرائباً وتغزو المنازل والمحال وتعرض خدماتها بأجورٍ زهيدة، وخلقت بطالة بنسبة خطيرة، إضافة الى زُحمة السكن ونشوء عشوائيات وأحزمة فقر.
بريطانيا التي أوَت ثلاثة ملايين مهاجر خلال السنوات العشر الأخيرة، لا شك أن مشكلة الهجرة هي من الأسباب الرئيسية التي دفعت أكثر من نصف مواطنيها للتصويت على الخروج من الاتحاد الأوروبي. فالبريطانيون، خاصة الذين ينتمون إلى طبقة العمال البيض، يتبرَّمون أصلاً من المهاجرين والأقليات، ويرون أن هؤلاء لم يختطفوا فقط وظائفهم بل قاسموهم خدماتهم الصحية والتعليمية، وظاهرة العداء للأجانب والمهاجرين بين أبناء الطبقات العمالية البيضاء، ظهرت بقوة بعد تدفق أعداد كبيرة من رعايا دول شرق أوروبا التي انضمت حديثاً للاتحاد الأوروبي بكل أحمالها وأثقالها الإقتصادية، بالإضافة لموجة الهجرة الجديدة الناتجة عن أزمات ونزاعات الشرق الأوسط وإفريقيا وآسيا، ولعل لظاهرة العداء جذور قديمة في التاريخ الأوروبي وتطوَّرَ الأمر الى ذعر، وأنتج موروث رفض الآخر وشيطنته، بعد تنامي ظاهرة “الإسلاموفوبيا”، مما دفع بالشعوب الأوروبية الى الرغبة بالإنطواء والإنغلاق الى حدود الكفر بالحدود المفتوحة ولعنة “شينغن” التي لم ترتبط بها بريطانيا أصلاً نتيجة القلق الدائم على الأمن الداخلي والسلام الإجتماعي.
ووسط إنهيارات أسعار الأسهم وتذبذبات البورصة واستمرار الإسترليني على سعر 10% أقل من قيمته أمام الدولار، بدأت المصارف الأوروبية الكبرى، التي كانت تجد في العاصمة البريطانية المركز المالي الأفضل في أوروبا لإدارة التعاملات المصرفية العائدة لدول الإتحاد الأوروبي، بدأت بدراسة جدوى البقاء تمهيداً لقرار الإرتحال الى عواصم أوروبية أخرى ضمن الإتحاد، إضافة الى الشركات المالية التي تعمل على قاعدة اليورو، وتلك التي تعتمد السوق الأوروبية المشتركة سوقاً لمنتجاتها ووجدت نفسها أمام خيارين، إما السوق البريطانية التي ستنغلق على نفسها، أو السوق الرحبة المفتوحة على نصف مليار مستهلك أوروبي، وفي مطلق الحالات فإن بريطانيا ستدفع الثمن، خاصة أن مفوضية الإتحاد الأوروبي تستعجلها بمباشرة “معاملات الطلاق” لتكريس الإنفصال، ولن تنتظرها حتى تشرين أول / أوكتوبر المقبل، فيما يبدو أنها ردَّة فعل حاقدة من الدول المؤسِّسَة للإتحاد على الخطوة البريطانية، في وقتٍ بدأ فيه حلف الناتو بحث موقع بريطانيا داخل الحلف على ضوء إنفصالها عن الإتحاد.
وقد حذر قادة الاتحاد الأوروبي بريطانيا، من أنه لن يكون هناك “عضوية حسب الطلب” في السوق الأوروبية المشتركة، وذلك خلال المحادثات التي جرت في بروكسل لمناقشة خروج بريطانيا من التكتل الأوروبي، وأعلن رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر أنه يتعيَّن على من يرغب في أن يكون جزءاً من السوق الأوروبية الموحَّدة الالتزام بقواعدها الصارمة دون استثناء، وأن “لا تفاوض دون إخطار”، وهو الأمر الذي شددت عليه أيضا كلٌّ من فرنسا وألمانيا، وكررت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل قولها “عدم وجود مجال للنقاش بشأن تفعيل المادة 50 من اتفاقية لشبونة التي تحدد جدولاً زمنياً لعامين من المفاوضات بشأن الانسحاب، ونتمنى أن يتم ذلك في أسرع وقتٍ ممكن”.
سياسياً، نقل رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان عن نظيره البريطاني ديفيد كاميرون قوله، أن عدم وجود آلية فعالة وحاسمة في التعامل مع أزمة المهاجرين هي أحد الأسباب الرئيسية لمغادرة بلاده للإتحاد الأوروبي، لكن كاميرون الذي كان مع محور البقاء، لن يستطيع لا هو ولا خليفته مواجهة مقاطعات ستنفصل عن بريطانيا إذا لم يتمّ إجراء استفتاء يُلغي مفاعيل الأول ويبقيها ضمن الإتحاد كما كان يتمنى كاميرون ودفع حياته السياسية ثمناً لها، وستدفع المملكة المتحدة لاحقاً الثمن الأكبر، لأن نصف شعبها غير راضٍ عن الإنفصال، خاصة الأغلبية الساحقة من الشباب والطلاب ومعظم المثقفين إضافة الى غالبية مواطني لندن واسكتلندا وإيرلندا الشمالية وجبل طارق، بحيث يبدو أن بريطانيا الصغرى قادمة لا محالة على أنقاض امبراطورية لا تغيب عنها الشمس، وبدأ مواطنوها يدفعون ثمن إنفصالها في المطارات الأوروبية، بحيث بات جواز السفر البريطاني وكأنه غير مرحَّبٍ به، كردَّة فعل على المعاملة بالمثل التي يلقاها مواطنو الإتحاد الأوروبي المقيمون في بريطانيا.
فرنسا التي يتعامل رئيسها فرانسوا هولاند مع الخطوة البريطانية بإنفعال، هي الأقرب لأن تُعاني من انقسام سياسي حاد، خاصة أنها أكثر دافعي أثمان اللجوء الجديد والهجمات الإرهابية، التي رفعت من رصيد اليمين المتطرِّف وعلى رأسه مارين لوبان، والإنتخابات الرئاسية الفرنسية آتية، وستُثبت أن رئيساً متخبِّطاً في سياساته ويحوز على ثقة 17% من مواطنيه حالياً، لن يتمكن من مقارعة أو منافسة من باتوا يجدون أن من مصلحة فرنسا أن تتقوقع على نفسها وتُعيد النظر بنسيجها الإجتماعي ضمن حدودها، وسُبحة الإنفصال عن الإتحاد سوف تنسحب على العديد من الدول الأوروبية، وسُبحَة التفكُّك ضمن الدولة الواحدة تسري على العديد من الدول الأخرى، وسايكس – بيكو أوروبية سوف تُعيد رسم حدودٍ جديدة، و”سايكس” قد سقط حتماً، و”بيكو” الذي سيعيش اهتزازات داخلية حادة، سيبحث عن شريكٍ يستعيد معه المجد الخارجي الذي كان، ولكن دون جدوى، وقد يكون الإتحاد الأوروبي آخر الإتحادات والأحلاف في الزمن الحاضر والزمن الآتي…
المصدر: موقع المنار