قبل أيام مرت ذكرى شهادة الإمام جعفر بن محمد الصادق(ع)، وهو الإمام السادس من أئمة أهل البيت(ع)، ولد في المدينة المنورة، واستشهد فيها وكان عمره يوم شهادته (65 أو 68) سنة، ودُفِنَ في البقيع إلى جانب أبيه الإمام الباقر(ع)، وجدّه الإمام السجاد(ع)، والإمام الحسن(ع).
أمّه :أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر، وكانت من سيدات النساء عفّة وشرفا وفضلا.
كانت فترة إمامته(ع) 34 عاماً.
وفرّت فترة الانفتاح التي حصلت ما بين نهاية الدولة الامويّة وبداية الدولة العباسيّة ، في زمن إمامة جعفرالصادق (ع) حرية الحركة للإمام لنشر معالم الدين، فلم تسنح الفرصة لأئمة أهل البيت (ع) قبل ذلك إظهار علومهم ومعارفهم للناس، لتضييق الحكام عليهم، بينما سنحت المرحلة الانتقالية بين الولة الأموية والعباسية للإمام الصادق(ع) أن يتحرك بحرية أن يؤسس جامعة علمية كبيرة في المدينة، فصار مصدرا للعلوم، والمعارف، ومصدراً للأحكام وفهم التشريعات الإلهية الصحيحة، ولذلك رويت عنه(ع) أحاديث عديدة في شتى العلوم والمعارف، في العقائد والفقه والحديث وتفسير القرآن والعلوم الانسانية، ولعل ما روي عنه في كل هذه العلوم يفوق ما روي عن غيره من الأئمة(ع)، وتبلورت في زمنه المعالم التفصيلية للتشيع وللمذهب الشيعي الإمامي، ومن هنا نُسِبَ المذهب الشيعي إلى هذا الإمام(ع) وسُمي المذهب الجعفري.
لقب الامام (ع) بالصادق: لقبه به جدّه النبي الأكرم(ص)؛ لأنه أصدق الناس في حديثه وكلامه.
وكنيته أبوعبد الله، وهذه الكنية هي التي اشتهر بها، وخاصة في الروايات الشريفة.
عاصر الإمام الصادق(ع) من حكام بني أميّة كل من: هشام بن عبد الملك والوليد بن يزيد المعروف بـ(الناقص)، ثم أخيه إبراهيم بن الوليد، ثم مروان بن محمد المعروف بـ(مروان الحمار) آخر ملوك الدولة الأمويّة، ومن حُكّام بني العباس كل من: السفاح وأبي جعفر المنصور، واستشهد(ع) مسموماً على يد أبي جعفر المنصور.
وهناك الكثير من الكلمات التي قيلت في حق الإمام الصادق (ع) من مختلف الشخصيات، وفي كل العصور سواء من الذين اتفقوا معه أو من اختلفوا معه:
فعَنْ أَبِي الصَّبَّاحِ الْكِنَانِيِّ قَالَ: «نَظَرَ أَبُو جَعْفَرٍ (ع) إِلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (ع) يَمْشِي، فَقَالَ: تَرَى هَذَا؟ هَذَا مِنَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ : ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ﴾.
وقال زيد بن علي بن الحسين (ع) عن ابن أخيه الإمام الصادق (ع): «في كل زمان رجل منا أهل البيت يحتج الله به على خلقه، وحجة زماننا ابن أخي جعفر، لا يضل من تبعه، ولا يهتدي من خالفه.
وقال مالك بن أنس وهو أحد رؤساء المذاهب في الإمام الصادق (ع): اختلفت إلى جعفر بن محمد زمانا، فما كنت أراه إلاّ على إحدى ثلاث خصال: إما مصلّيا، وإما صائما، وإما يقرأ القرآن، وما رأيته يحدّث عن رسول الله (ص) إلا على طهارة، ولا يتكلّم بما لا يعنيه، وكان من العلماء العباد والزهّاد الذين يخشون الله، وما رأت عين، ولا سمعت أُذن، ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر بن محمد الصادق علما وعبادة وورعا.
وأعلن أبو حنيفة أن المدّة التي تتلمذ فيها على الإمام الصادق (ع) هي التي ساعدت على بناء كيانه الفقهي فقال: لولا السنتان لهلك النعمان
قال حسن بن زياد : «سمعت أبا حنيفة، وسئل من أفقه من رأيت، فقال ما رأيت أحدا أفقه من جعفر بن محمد لما أقدمه المنصور الحيرة بعث إليَّ فقال: يا أبا حنيفة إنَّ الناس قد فُتنوا بجعفر بن محمد، فهيىء له من مسائلك الصعاب. قال: فهيأت له أربعين مسألة، ثم بعث إلي أبو جعفر فأتيته بالحيرة، فدخلت عليه، وجعفر جالس عن يمينه فلما بصرت بهما دخلني لجعفر من الهيبة ما لم يدخل لأبي جعفر، فسلّمت وأذن لي فجلست، ثم التفت إلى جعفر، فقال: يا أبا عبد الله تعرف هذا؟ قال: نعم هذا أبو حنيفة، ثم أتبعها قد أتانا، ثم قال: يا أبا حنيفة هات من مسائلك نسأل أبا عبد الله، وابتدأت أسأله، وكان يقول: في المسألة أنتم تقولون فيها كذا وكذا، وأهل المدينة يقولون كذا وكذا، ونحن نقول: كذا وكذا، فربما تابعنا وربما تابع أهل المدينة،
وربما خالفنا جميعا حتى أتيت على أربعين مسألة ما أخرم منها مسألة، ثم قال أبو حنيفة: أليس قد روينا أنه أعلم الناس اعلمهم باختلاف الناس.
وللامام وصايا كثيرة لشيعته ولغير شيعته وهي كلها وصايا عظيمة منها: وصيته لعنوان البصري، وهو شيخ كبير من أتباع مالك ابن انس فقد جاء هذا الرجل الى دارالامام وطلب أن يوصيه فقَالَ له الامام: أُوصِيكَ بِتِسْعَةِ أَشْيَاءَ، فَإنَّهَا وَصِيَّتِي لِمُرِيدِي الطَّرِيقِ إلی اللهِ تَعَالَى؛ وَاللهَ أَسْأَلُ أَنْ يُوَفِّقَكَ لاِسْتِعْمَالِهِ.
ثَلاَثَةٌ مِنْهَا فِي رِيَاضَةِ النَّفْسِ، وَثَلاَثَةٌ مِنْهَا فِي الحِلْمِ، وَثَلاَثَةٌ مِنْهَا فِي العِلْمِ. فَاحْفَظْهَا؛ وَإيَّاكَ وَالتَّهَاوُنَ بِهَا:
وهذه الوصية تمثل في الحقيقة أحد النصوص السلوکية الجامعة التي اهتم کثيرا بها علماؤنا ودعوا طلاب العلم إلى حفظها والعمل بها، ومنهم السيد علي القاضي الذي كان مشهورا بالعرفان والسير والسلوك الى الله.
أَمَّا اللَوَاتِي فِي الرِّيَاضَةِ:
فإيَّاكَ أَنْ تَأْكُلَ مَا لاَ تَشْتَهِيهِ، فَإنَّهُ يُورِثُ الحَمَاقَةَ وَالبَلَهَ.
وَلاَ تَأْكُلْ إلَّا عِنْدَ الجُوعِ
. وَإذَا أَكَلْتَ فَكُلْ حَلاَلاً وَسَمِّ اللهَ، وَاذْكُرْ حَدِيثَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ: مَا مَلأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرَّاً مِنْ بَطْنِهِ. فَإنْ كَانَ وَلاَ بُدَّ، فَثُلْثٌ لِطَعَامِهِ وَثُلْثٌ لِشَرَابِهِ وَثُلْثٌ لِنَفَسِهِ.
أحد معالم المنهج الاسلامي في السير والسلوک إلى الله عزوجل وهو أنه يجعل الرياضات السلوکية عاملا لتقوية البدن وتهذيب النفس وتنقية الروح لا أنه يجعل الرياضات عاملا لقتل النفس وتعذيبها وتحميلها ما لا يطاق کما هو الحال في رياضات الطرق المنحرفة، فالسالک
الى الله يحصل بهذا السلوك على قوة البدن وطهارة الروح في الوقت نفسه. وَأَمَّا اللَوَاتِي فِي الحِلْمِ:
فَمَنْ قَالَ لَكَ: إنْ قُلْتَ وَاحِدَةً سَمِعْتَ عَشْراً، فَقُلْ: إنْ قُلْتَ عَشْراً لَمْ تَسْمَعْ وَاحِدَةً.
وَمَنْ شَتَمَكَ فَقُلْ لَهُ: إنْ كُنْتَ صَادِقاً فِي مَا تَقُولُ فَأَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَغْفِرَ لِي؛ وَإنْ كُنْتَ كَاذِباً فِيمَا تَقُولُ فَاللهَ أَسْأَلُ أَنْ يَغْفِرَ لَكَ.
وَمَنْ وَعَدَكَ بِالخَنَى [الخيانة، وفُحش الكلام] فَعِدْهُ بِالنَّصِيحَةِ وَالدُّعَاءِ.
وهذه الأصول الثلاثة کفيلة بإخراج السالک إلى الله عزوجل من عبودية النفس وشهواتها التي تدعوه للثأر لها وتمهد بذلک سبل جره إلى الاستعلاء في الأرض.
وَأَمَّا اللَوَاتِي فِي العِلْمِ:
فَاسْأَلِ العُلَمَاءَ مَا جَهِلْتَ؛ وَإيَّاكَ أَنْ تَسْأَلَهُمْ تَعَنُّتاً وَتَجْرِبَةً.
وَإيَّاكَ أَنْ تَعْمَلَ بِرَأْيِكَ شَيْئاً؛ وَخُذْ بِالإحْتِيَاطِ فِي جَمِيعِ مَا تَجِدُ إلَيْهِ سَبِيلاً
وَاهْرَبْ مِنَ الفُتْيَا هَرْبَكَ مِنَ الأسَدِ؛ وَلاَ تَجْعَلْ رَقَبَتَكَ لِلنَّاسِ جِسْراً!
هذه الوصايا تفتح أمام السالک إلى الله عزوجل أبواب النجاة من أن يکون علمه وبالا عليه إذا سخره للدنيا فجعل نفسه جسرا للناس أن ينفعهم بعلمه لکنه يخسر حظه عندما يکون تعليمه لهم بهدف السمعة والرياء والنفوذ إلى قلوبهم ، او انه عندما يعلم الآخرين ويعظهم ولا يعمل بعلمه.
کما أن هذه الوصايا تحصن الإنسان من مخاطر الإنجرار وراء اتباع الهوى إذا ما اتبع آراءه وقناعاته الشخصية کاتباع القياس والاستحسان في دين الله فهذا مما ينقض حقيقة العبودية التي
تعني في أحد مصاديقها أخذ الدين الحق من الله عزوجل وأوليائه المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين.
نحن بحاجة الى هذه الوصايا لتصحيح سلوكنا واخلاقنا ومعاملتنا للآخرين، ولمواجهة المشاكل والأزمات والتحديات الكثيرة في الحياة وفي هذا العالم.
اليوم مسار الأحداث في المنطقة وبالرغم من حالة الدمار التي يحدثها العدوان في كل من اليمن وسوريا وغيرها، هو في مصلحة محور المقاومة، وليس في مصلحة المحور الأمريكي الاسرائيلي السعودي. فمشروع محور المقاومة بفعل التضحيات والصمود والثبات في كل ساحات الاشتباك يتقدم بخطوات ثابتة ويحقق إنجازات كبيرة.. إنجازات كبيرة في سوريا، وثبات وصمود أسطوري في اليمن، وفشل أمريكي سعودي في العراق، وعدم وجود شريك فلسطيني لتمرير صفقة القرن في فلسطين، واستعداد إيراني كبير للمواجهة والصمود والثبات في وجه الحرب الاقتصادية والإعلامية والسياسية التي تشنها الولايات المتحدة الأمريكية على إيران.
كل هذه الانجازات والتطورات تجعل محور المقاومة يتقدم، لكن لا يمكن أن يتحقق الانتصار الكامل إلا بالمزيد من الصبر والصمود والثبات والتمسك بالمقاومة، ولا يمكن مواجهة التهديدات والتحديات التي لا يزال العدو يفرضها علينا الا بالصبر والثبات والمقاومة.
اليوم صفقة القرن هي أحد مفردات المواجهة القائمة في المنطقة بين محور المقاومة وبين المحور الأمريكي الاسرائيلي السعودي، ويبدو أنّ هذه الصفقة هي مشروع تصفية كاملة للقضية الفلسطينية بالتواطؤ والتعاون السري والعلني فيما بين الادارة الأمريكية وإسرائيل والمتآمرين العرب وفي مقدمهم السعودية.
وأخطر ما في هذه الصفقة أنها لا تلبي أياً من الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، فلا قدس ولا دولة ولا عودة لاجئين ولا سيادة ولا تفكيك مستوطنات ولا شيء مما كانوا يتحدثون عنه حتى في التسوية وما يسمى بعملية السلام التي تبناها المجتمع الدولي.
هذه الصفقة لن تمر طالما ان الشعب الفلسطيني يتمسك بالمقاومة لاستعادة حقوقه وأرضه ويرفض الاستسلام ويرفض التخلي عن ثوابته الوطنية، والأمريكي ومن معه لن يجدوا لهم شريكاً فلسطينياً شريفاً في هذه الصفقة ، لأن الفلسطيني الشريف لا يمكن أن يشارك في التآمر على أرضه وشعبه وحقوقه فضلاً عن أنه لا يمكن أن يشارك في تصفية قضيته..
أما في لبنان فان التأخير الذي يحصل في تشكيل الحكومة ربما يأتي في سياق مشروع سعودي للالتفاف على نتائج الانتخابات النيابية، وتكبير حجم وحصص بعض أدواتهم في الحكومة، لتمرير سياساتهم ضد المقاومة وحلفائها في لبنان، وعلى اللبنانيين ان يدركوا ان هذا المشروع ليس في مصلحة لبنان وهو محاولة لزعزعة الاستقرار السياسي الذي من مصلحة الجميع الحفاظ عليه.
المطلوب هو النظر الى مصلحة لبنان وعدم الارتهان للخارج والاسراع في تشكيل الحكومة، لأن في ذلك مصلحة للبنان ولكل اللبنانيين، وأي تأخير سيساهم في تفاقم الوضع الاقتصادي والمالي الذي وصل الى مستويات صعبة وخطيرة، ويؤخر الحلول للكثير من الأزمات المعيشية والحياتية التي يعاني منها المواطنون.
المصدر: موقع قناة المنار