يقول الله تعالى: (وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا).
في الاسبوع الماضي قلنا إن هناك أشكالا عديدة للإحسان، أبرزها: الإحسان الى الوالدين، وقد أمر الله سبحانه في هاتين الآيتين بالاحسان إلى الوالدين، والإحسان اليهما يكون: بالاستماع إلى توجيهاتهما ونصائحهما وطاعتهما والأخذ برأيهما، وتلبية حاجاتهما ورغباتهما وما يتمنون بكل رحابة وفرح وسرور.
ويكون الإحسان اليهما أيضاً: بمعاملتهما بأدب واحترام، وبالتلطف حين التحدث معهما واختيار أجمل العبارات وعدم رفع الصوت عليهما وفي محضرهما وأمامهما، وعدم التضجر والغضب والتلفظ بكلمة (أف) عندما يطلبان أمرا أو حتى عندما يكثران من الطلب.
يروي أحد اصحاب الامام الصادق يقول: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن قول الله عزوجل: ” وبالوالدين إحسانا ” ما هذا الاحسان؟ فقال: الاحسان أن تحسن صحبتهما، وأن لاتكلفهما أن يسألاك شيئا مما يحتاجان إليه وإن كانا مستغنيين، أليس يقول الله عزوجل: ” لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون “.
قال: ثم قال أبو عبدالله (عليه السلام): وأما قول الله عزوجل: ” إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما اف ولا تنهرهما ” قال: إن أضجراك فلا تقل لهما: اف ; ولا تنهرهما إن ضرباك.
وقوله تعالى ” وقل لهما قولا كريما ” قال: إن ضرباك فقل لهما: غفر الله لكما، فذلك منك قول كريم.
وقوله ” واخفض لهما جناح الذل من الرحمة ” قال: لا تملا عينيك من النظر إليهما إلا برحمة ورقة، ولا ترفع صوتك فوق أصواتهما ولايدك فوق أيديهما ولا تتقدم قدامهما.
الإحسان الى الوالدين يكون ايضا بعدم تفضيل وتقديم أحد عليهما في الإحسان والرعاية والاهتمام، سواء كانت زوجة أو أبناء أو أقرباء؛ لأن الوالدين أعظم حقًّا وليس ثمة أحد أعلى منهم منزلة وأحق بالعناية.
الزوجة يجب أن تعرف أن والدي الزوج أولى بالإحسان فلا ينبغي أن تتأفف عندما ينفق الزوج شيئاً من أمواله على والديه وشؤونهما، فهذا واجبه، وان لم يفعل وهو قادرعلى ذلك فهو عاق بوالديه.
الزوجة أحيانا تحاول منع زوجها من الإنفاق على والديه والإحسان اليهما وهو غير مقصر في تلبية حاجاتها وحاجات البيت والأولاد، ولكنها لا تريد ذلك لأنها لا تحبهم او لأنها ترى انهم ليسوا بحاجة الى المال، او لأنها تريد ادخار المال لبيتها فقط وهكذا.. وهذا ليس سلوكا صحيحا من الزوجة، بل على الزوجة ان تشجع زوجها على القيام بواجباته تجاه والديه عندما يكون قادرا على ذلك، حتى لو استدعى ذلك شيئا من التقشف في الانفاق على اسرته وبيته.
كذلك على الأولاد داخل البيت ان لا يتمردوا على الوالدين، لا سيما على الأم التي غالبا ما تعاني من اسلوب تعامل اولادها معها .
البعض يقلل أدبه مع والدته أو يكثر من طلباته لها او أنه دائم التزمر والتأفف (والنق)، لا يرضيه شيء ولا يعجبه شيء ولا يسمع ولا يصغي لنصائح والدته، والبعض يعتبر نفسه أوعى وأفهم من والديه وأنه مدرك أكثر منهما وأنه يعرف مصلحته أكثر مما يعرفانها، فيقول البعض: (شو بعرفهم انا بعرف أكتر) هذا سلوك خاطىء ايضا .
يفترض بالإنسان المؤمن أن يسمع لهما حتى ولو لم يعجبه رأيهما وحتى لو لا يريد أن يأخذ بنصيحتهما فإن عليه أن يظهر لهما أنه يحب استشارتهما وأنه لا يستغني عن آرائهما وتوجيهاتهما؛ لأن هذا من البر بهما.
أظهر أنك لا تستغني عن حاجتك اليهما والى توجيهاتهما وخبرتهما في الحياة حتى ولو كبروا وكبرنا نحن، وكبرت عقولنا وتجاربنا وخبراتنا في الحياة ؛ لأن هذا الأسلوب في التعاطي مع الوالدين يقوي علاقتنا بهم ويزيد من محبتهم لنا، بل هذا يولد شعورا جميلا بأنه مهما كبروا وضعفوا وعجزوا وهرموا فلن نستغني عنهم، وإننا لا نزال بحاجة اليهما والى خبرتهما في الحياة.
البر الحقيقي يكون ايضا حينما نسمع اليهما ونطيعهما بالرغم من اختلاف رغباتنا وميولنا وطريقة تفكيرنا عن طريقة تفكيرهم .
البر الحقيقي يكون حينما نعطيهما وننفق عليهما ونلبي حاجاتهما وهما ليسا بحاجة الينا؛ لأن برنا بهما وهما محتاجان لنا ليس برا وإنما واجب علينا ورد للجميل الذي قاما به تجاهنا ونحن صغار.
والبر مطلوب للوالدين حيين وميتين، وهذا ما أكدت عليه الأحاديث الشريفة، فعن الامام الصادق (عليه السلام): ما يمنع الرجل منكم أن يبر والديه حيين وميتين ; يصلي عنهما، ويتصدق عنهما ; ويحج عنهما ; ويصوم عنهما، فيكون الذي صنع لهما، وله مثل ذلك فيزيده الله عزوجل ببره وصلته خيرا كثيرا.
والبر بالوالدين قد يكون أحيانا أفضل من الجهاد في سبيل الله ، فأحيانا عندما يكون الجهاد ليس واجبا عينيا، ويكون الإنسان وحيدا عند والديه، يأنسان به ويستعينان به على قضاء حاجاتهما ، ويكرهان ابتعاده عنهما ومفارقته لهما يصبح الجلوس اليهما وترك الجهاد افضل وأكثر أجحرا وثوابا عند الله سبحانه وتعالى.
فعن جابر، عن أبي عبدالله الصادق (عليه السلام) قال: أتى رجل رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: يا رسول الله إنى راغب في الجهاد نشيط قال: فقال له النبي (صلى الله عليه وآله): فجاهد في سبيل الله فإنك إن تقتل تكن حيا عند الله ترزق وإن تمت فقد وقع أجرك على الله وإن رجعت رجعت من الذنوب كما ولدت، قال: يا رسول الله إن لي والدين كبيرين يزعمان أنهما يأنسان بي ويكرهان خروجي، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): فقر مع والديك فوالذي نفسي بيده لانسهما بك يوما وليلة خير من جهاد سنة.
والاثار المترتبة على برِّ الوالدين كثيرة:
منها غفران الذنوب: فقد ورد عن أهل البيت (عليهم السلام): أنَّ رجلاً جاء إلى رسول الله (ص)، فقال: يا رسول الله، ما من عظيمةٍ إلَّا وقد ارتكبتها وما من ذنبٍ إلَّا وقد اقترفته، فهل لي من توبة؟ فأجابه النبي وقال (ص): (هل بقي أحد من والديك؟ قال: أبي، قال: إذهب فبِرَّه، فإنَّ ذنوبك جميعاً مهما خطرت تزول)، ثم لما ذهب ذلك الرجل، قال رسول الله (ص): (لو كانت أُمُّه هي الموجوده كان غفران ذنوبه أسرع).
ومنها: طول العمر وزيادة الرزق واستحقاق الجنة: فعن رسول الله (ص): (من سرَّه أن يُمدَّ له في عمره، ويُزاد في رزقه، فليبرَّ والديه، وليصِلْ رَحِمَه).
نحن بحاجة الى هذا السلوك والى هذه الأخلاق، أخلاق البر والإحسان والإحترام وصنع المعروف والإلتزام بكل القيم الإنسانية ليس مع الوالدين فقط، بل مع عموم أبناء المجتمع، لأن هذه الأخلاق وهذا السلوك هو الذي يحفظ قيم المجتمع ويحمي استقراره وأمنه الإجتماعي، وعندما تتحكم هذه القيم في المجتمع تنعدم الإساءة والأذية والإستهتار والجريمة.
عندما تكون أخلاق وقيم الدين والرسالة هي الحاكمة على سلوك المجتمع لا يعود هناك جريمة ولا منكرات ولا فلتان ولا تعديات ولا ارتكابات ولا أذية للناس.
اليوم ارتكاب الجريمة واستهال القتل لأتفه الأسباب، وإيذاء الناس من خلال اطلاق الرصاص والمفرقعات والضوضاء التي تنبعث من المقاهي وغيرها بسبب مباريات المونديال هو سلوك لا أخلاقي ولا إنساني ولا حضاري يجب الإقلاع عنه.
لماذا لا نسمع بارتكاب جرائم قتل بسسب المونديال واطلاق الرصاص عند فوز كل فريق الا في لبنان؟! هذا أمر معيب تتحمل الدولة مسؤوليته، ويتحمل الناس مسؤوليته ايضا، لان الناس والأهل والعقلاء يجب ان يساهموا في ردع مثل هذه الحالات كل من موقعه.
الدولة وأجهزتها مسؤولة عما يحصل من فلتان في بعض المناطق، وعلى الأجهزة الأمنية ان تقوم بمسؤولياتها في ملاحقة الجناة والمجرمين والمخلين بالأمن والمسيئين والذين يتسببون
بترويع الناس، وسوقهم الى القضاء لمعاقبتهم وليكونوا عبرة للآخرين، فالله تعالى يقول: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ.
البلد لا يحتاج الى مصائب جديدة وازمات جديدة، يكفيه الأزمات التي يعاني منها الناس على المستوى الحياتي والمعيشي والإقتصادي والأمني.
وفي هذا السياق الناس تتنظر تشكيل الحكومة لتقوم بواجباتها في معالجة هذه الأزمات.. وهي تتطلع الى حكومة قوية وقادرة على التصدي لكل القضايا الأساسية التي تهم الناس من الوضع الاقتصادي الى مكافحة الفساد الى معالجة قضية النازحين.
والحكومة االقوية والأقدر على معالجة المشاكل والأزمات التي تضغط على المواطنين هي الحكومة التي تراعي الشراكة الوطنية وتتمثل فيها كل القوى السياسية الوازنة في البلد وتضمن مشاركة وتمثيل القوى السياسية التي أفرزتها نتائج الإنتخابات النيابية، فلا يصح تغييب قوى وشخصيات عن الحكومة كشفت الإنتخابات عن حجمها الشعبيي والسياسي، كما لا يصح تعطيل تأليف الحكومة بسبب عقد وضغوط خارجية تريد تكبير دور وحجم وحصة بعض القوى السياسية في الحكومة بما لا يتناسب مع حجمها في البرلمان .
اذا كانت السعودية تضغط لتكبير حصة حلفائها في الحكومة بهدف تشكيل محور سياسي لمواجهة المقاومة وتأييد سياسات السعودية في مواجهة محور المقاومة في المنطقة فهي مخطئة فلبنان لا يمكن ان يكون في مواجهة مع محور المقاومة ولا يمكن أن يقبل بصفقة القرن التي يسعى بن سلمان لفرضها على الفلسطينيين وعلى دول المنطقة، لأن لبنان سيكون أول
المتضررين من هذه الصفقة التي ستقضي على حق العودة وستؤدي الى توطين اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، وهوما ليس في مصلحة لبنان ولا في مصلحة اللاجئين الفلسطينيين.
المصدر: موقع قناة المنار