صباح الجمعة 24 حزيران / يونيو، وفور الإعلان عن النتائج الأولية للإستفتاء البريطاني حول البقاء ضمن الإتحاد الأوروبي أو الخروج منه، والتي أظهرت حصول الداعين للخروج من الإتحاد على نسبة 52% في مقابل 48% صوتوا للبقاء ضمن هذا الإتحاد، بدأت ردود الفعل العالمية تتوالى، بعد يومٍ إنتخابيٍّ مصيريّ، شهِدت فيه البورصات العالمية إنهيارات، في الوقت الذي تذبذبت فيه المؤشرات الآسيوية، وتداعت أسعار الأسهم قبل منتصف ليل الخميس / الجمعة، لتعود الثقة من جديد عند الفجر، نتيجة معلومات غير دقيقة عن حصول الداعين للبقاء ضمن الإتحاد على 57% من الأصوات، ثم تبيَّن عكس هذه النتائج عند الصباح، وعادت المؤشرات الى الإنهيار مجدداً، وكانت صحيفة “نيكاي” الاقتصادية اليابانية قد ذكرت أن المصارف المركزية في أوروبا والولايات المتحدة واليابان مُلزمة ببدء تحرُّك لضخ سيولة بالدولار في حال خرجت بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وفعلاً، انخفض مؤشر “نيكاي” في طوكيو أكثر من 6 في المئة، وارتفع سعر صرف الين الياباني بنسبة 5 في المئة، حيث تزاحم المستشمرون على العملة اليابانية التي رأوا فيها ملاذا آمناً.
في الداخل البريطاني أعلن رئيس الوزراء دايفد كاميرون عن الخيبة من نتائج الإستفتاء، والخوف من التداعيات الإقتصادية، خاصة أن 45% من الصادرات البريطانية تتوجَّه الى أسواق دول الإتحاد الأوروبي، وإذا كانت بريطانيا بقرارها الخروج من الإتحاد الأوروبي قد وفَّرت على نفسها دفع مبلغ 13 مليار جنيه كمساهمة في تمويل الإتحاد، فإن خسائرها الإقتصادية ستفوق هذا المبلغ بكثير، وأكد وزير المالية البريطاني جورج أوزبورن في وقت سابق أن الخروج من الاتحاد يمكن أن ينجم عنه رفع الضرائب على البريطانيين وخفض النفقات، لتعويض نقص مالي بقيمة 30 مليار جنيه إسترليني أي 38 مليار يورو.
وفي أول ردَّة فعل علنيَّة على نتيجة الاستفتاء، أعلن كاميرون أمام الصحفيين إنه ينوي الإستقالة من منصبه بحلول شهر تشرين الاول / اكتوبر المقبل، وقال للصحفيين امام مقر اقامته الرسمي في 10 دوانينغ ستريت بلندن “لا أظن انه سيكون من الصواب ان اكون الرُبَّان الذي يقود بلادنا الى محطتها القادمة”.
في هذا الوقت، إنخفض سعر الجنيه الإسترليني بنسبة 9 في المئة، ليصل إلى 1.3459 دولار، وهو الإنخفاض الذي لم يحدث منذ عام 1985، وجاء ذلك بعد أن شهد سعر الاسترليني تقلبات حادة، في ظل تفاعل المتعاملين مع أحدث نتائج الاستفتاء التي توالى ظهورها، وقبل بدء ظهور النتائج ارتفع الجنيه ليصل إلى 1.50 دولار، حيث راهن المتعاملون على فوز معسكر البقاء داخل الاتحاد، لكن بعد ظهور نتائج تفيد بتقدم معسكر الخروج في شمالي شرق انجلترا، هبط الجنيه لمستوى 1.43 دولار، وأعقب ذلك هبوط آخر عند الساعة 03:00 بحسب التوقيت الصيفي لبريطانيا، حيث حافظ معسكر الخروج على تقدمه ويقول متعاملون إن هذه التقلبات فاقت ما حدث خلال الأزمة المالية العالمية عام 2008.
وأيضاً في الداخل البريطاني، وإذ أظهرت النتائج رغبة البريطانيين في الوسط والجنوب وتحديداً في العاصمة لندن، البقاء ضمن الإتحاد الأوروبي، فلأن هذه المناطق هي مركز تمركز رجال الأعمال والأرستقراطيين المنتفعين من حركة التبادل مع الإتحاد الأوروبي من جهة، ومن جهة أخرى لأن هذه المناطق هي الأكثر تأثراً بالمهاجرين الذين بلغ عددهم ثلاثة ملايين خلال السنوات العشر الأخيرة، والخروج من الإتحاد يعني أن بريطانيا عليها أن تواجه منفردة أعباء لجوئهم.
في المقابل، فإن الشمال البريطاني كان الأكثر رغبة في الإنسحاب من الإتحاد، لأن لا مردودات إقتصادية مباشرة يستفيد منها سكان الأرياف نتيجة وجود بريطانيا ضمن الإتحاد، ولأن الشمال البريطاني لم يشهد دخول مهاجرين كما هو الحال في لندن والوسط.
وجاءت القنبلة التي تهدِّد وحدة بريطانيا، من أسكتلندا بالذات، التي صوَّتت عام 2014 لصالح البقاء ضمن المملكة البريطانية، وبعد ظهور النتائج الأولية لصالح الإنسحاب، ارتفعت فيها الأصوات المُطالبة بالإنفصال وإعادة الإستفتاء للإنفصال النهائي عن بريطانيا، كون مصلحة أسكتلندا هي في استمرار التعاون مع الإتحاد الأوروبي، لأن هذا الإتحاد يموِّل المزارعين الأسكتلنديين مباشرة، وصرَّح أكثر من مسؤول اسكتلندي عن استمرار التعاون مع الإتحاد بمعزل عن قرار بريطانيا، في ما يُشبه الإنفصال غير المُعلن تمهيداً لترجمته عبر استفتاء عاجل يُلغي مفاعيل الإستفتاء الأول، ويمهِّد لإنضمام “اسكتلندا المستقلة” مستقبلاً للإتحاد.
خارجياً،والبداية من ألمانيا، حيث اعتبر وزير خارجيتها فرانك فالتر شتاينماير، خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أنه سيدفع ببلدان أخرى للسير في نفس الاتجاه تحت ضغط التيارات السياسية المتطرفة، وحذَر من مخاطر تفكُّك الإتحاد الأوروبي، وصحَّت توقعات الوزير الألماني فوراً، وأطلقت مارين لوبان زعيمة اليمين الفرنسي المتطرِّف صرخة تُطالب بإنسحاب فرنسا من الإتحاد الأوروبي، علماً بأن ألمانيا هي الأولَى بالإنسحاب كونها أكبر دولة إقتصادية في الإتحاد الأوروبي وتتحمَّل أضعاف ما يتحمَّل سواها من مساهمات في تمويل هذا الإتحاد، خاصة عندما تعرَّضت بعض دول الإتحاد الى أزمات مالية حادة وبشكل خاص اليونان والبرتغال وإيطاليا وإسبانيا.
.
وعلى ذكر إسبانيا، وعلى ضوء النتائج الأولية للإستفتاء البريطاني، انتعشت التحركات ضمن إقليم “الباسك”، والدعوات لإجراء استفتاء إنفصال عن إسبانيا، وهو الحلم القديم الجديد لسكان هذا الإقليم، وهذا الخطر في الدعوات الإنفصالية لن يقتصر على أسكتلندا البريطانية والباسك الإسبانية بل قد ينسحب على باقي الإتنيات المُطالبة بالإنفصال عن دولها الأوروبية الحالية، وإذا كانت مسألة إنفصال أسكتلندا ستكون النموذج السلمي لأوروبا للإنفصال ضمن الدولة الواحدة، بعد عشرات السنوات من الصراع الدموي بين “السكوتلنديارد” والعرش البريطاني، فإن إقليم الباسك الإسباني مُلتهِب جداً وقد يؤدي انفصاله الى دماء تُسفَك على الأرض الإسبانية.
وفيما تُشير القراءات إلى أن قرار البريطانيين انسحاب بلادهم من الاتحاد الأوروبي، ستكون له تداعيات خطيرة على بريطانيا والأسرة الأوروبية على حد سواء، سياسيا واقتصاديا، وسينال من قوة القرار الدبلوماسي الأوروبي، حيث يذهب بعض المحللين إلى توقع تفكك الاتحاد كليا بعد النتائج البريطانية، فقد ساد السواد البيت الأبيض الأميركي أكثر من سواه، واعتبر الرئيس أوباما أن بريطانيا كانت الداعم الأقوى ضمن الإتحاد الأوروبي لسياسة الولايات المتحدة، في الوقت الذي رحَّب فيه المرشَّح الجمهوري بفكرة إنفصال بريطانيا عن الإتحاد من منطلق الرغبة بإضعاف هذا الإتحاد.
وتتَّجه الأنظار الى بروكسل التي صدمتها نتائج الإستفتاء، بصفتها عاصمة الإتحاد الأوروبي، وبدأت فوراً أولى مناقشات البحث بضرورة قيام ورشة قانونية معقَّدة لدراسة الإتفاقيات التي عقدتها بريطانيا مع الإتحاد على مدى 43 عاماً، ويؤكد الخبراء القانونيون، أن التطبيق الفعلي للقرار البريطاني لن يبدأ قبل سنتين، نتيجة تشابك البنود القانونية لنقض الإتفاقيات وفق طبيعة كلٍّ منها، وسريان القوانين الدولية على بعضها، والأوروبية الموحَّدة على بعضها الآخر، وسط الإرباكات الإقتصادية التي تعيشها أوروبا نتيجة الوضع الأمني المُربك وتبعات اللاجئين والتهديدات الإرهابية، وبدا الإستفتاء البريطاني بتوقيته وبنتيجته الصادمة وكأنه الضربة القاضية لإستقرار أوروبا واستقرار العالم الغربي …
المصدر: موقع المنار