لا يكفي أن نذكُر القٌدس في يومها بالعاطفة فقط، ولا بالتعاطف الكلامي العربي الهجين، لأننا كلبنانيين نعتبر أن كل الحقّ على لبنان، وثقافته المقاوِمَة “الدخِيلة” على قاموس العرب، الذين اعتادوا تلقِّي الضربات ورفع الصرخات الى منظمة الأمم، مثلما يعلو صراخ القاصرين أمام أُمِّهم. والجهل بهذه الثقافة المُعاصِرة لأجيال الكرامة ضلَّل إسرائيل أيضاً، التي كانت تشنُّ عدوانها على جيرانها فيما شعبها يأخذ حمامات شمسٍ على شواطىء طبريا، وعلى هذا الأساس بَنَت إسرائيل بإطمئنان مواقعها النووية والكيماوية وزنَّرت حيفا بخزانات الأمونيا، وأنشأت على بضعة آلاف من الكيلومترات المربَّعة كياناً محتلاً غاصباً “واثقاً”، ولم يتوقَّع خبراؤها الإستراتيجيون يوماً، أن القِبَّة الحديدية لا تنفع مع بدعة “الطائرات الورقية”، تماماً كما مدافع هاون مُصنَّعة في ورشة حدادة بقطاع غزَّة تهزّ أسطورة أمان الشعب الإسرائيلي الذي يعيش مسلسل رُعبٍ بدأ من لبنان وينتهي في الداخل الفلسطيني.
المقاومة ثقافة، والإنتصار لا ينتظر إذناً سوى من أهل الإيمان والعزيمة، ولو انتظر الفلسطينيون عقوداً فقد لا تتِمَ المُصالحة بين بعض فصائلهم، لدرجة أن بعض المسؤولين الإسرائيليين كانوا يستخدمون الفُرقة بين القوى والفصائل للتذرُّع بعدم استكمال المفاوضات، وفي هذه الأيام حيث الطائرات الورقية الفلسطينية تحرِق حقول المُحتَلِّين، تعلو صرخات المسؤولين الصهاينة، أن عدم وجود قيادة فلسطينية موحَّدة سوف يُعيق تهدئة ثورة الشباب الفلسطيني خاصة أيام الجُمعة من كل أسبوع، وبالتالي، كما دفع الفلسطينيون من حقوقهم نتيجة فُرقَة قياداتهم، يجب أن يدفع الإسرائيليون الأثمان الغالية بقبضات الشعب الفلسطيني الذي لم يعُد أسير تفاهمات القيادات، لأن الفورة التلقائية العفوية تحرَّرت من مهزلة المفاوضات.
من تجربة المقاومة في لبنان يجب أن يستفيد الفلسطينيون، “واحدة بواحدة”، في توازنِ رُعبٍ تنتصر فيه الصواريخ مهما كانت درجات مداها في عمق الكيان وفي الداخل الشعبي المذعور من “جِيرة” لا تُشبه الجيران العرب، الذين انتقلوا من حقبة “عرب الإعتدال” الى حقبة تطبيع العلاقات وإقامة التحالفات مع الكيان الإسرائيلي، والمسألة عند الفلسطينيين المُنتفضِين غاية في البساطة، لا داخل صهيوني مُطمئن طالما هناك احتلالٌ وعدوان، ولا مستوطنات آمنة طالما الشعب الفلسطيني يعيش القتل والسحل والإضطهاد والحصار القاتل.
المستوطنون الصهاينة لديهم قاسم مُشترك مع شعوب بعض دول الخليج، لا هم مُقاوِمون ولا مسالمون لان الحقد العنصري يسكنهم، في الوقت الذي لم تعُد القِبَب الحديدية وقواعد رصد واعتراض الصواريخ ضامنة لأمانهم، وعندما تصِل تكتيكات المواجهة الى بمواجهة شعب، ينتصر الفلسطينيون كما انتصر اللبنانيون، والنصر قاب قوسين أو أدنى متى استطاع الشعب الفلسطيني إسكان منطقة مُخاذية لقطاع غزة عدَّة أيامٍ في الملاجىء.
الشعب الفلسطيني يُعتبر من الأكثر علماً وثقافة بين الدول العربية، ويقرأ الأحداث منذ “اتفاقية أوسلو” عام 1993، مروراً بكل القمم العربية الكلامية، ووصولاً الى “صفقة القرن” التي يُهدِّد بها ترامب ويتوعَّد، وهذا الشعب، لا ينقصُه لا الوعي ولا الواقعية في مقاربة الأمور ليُدرك سُبُل انتفاضة مُستدامة حتى استعادة حقوقه، وأن طعنة السكِّين ورميَة الحجر وإشعال أرض محتلة عبر طائرة ورقية، تُضاهي كل ما يُمكن إنجازه منذ مهزلة “أوسلو” وحتى اليوم.
في زمن “أوسلو”، لم تكن الخيانة العربية على الأقل واضحة المعالم، ولا كانت العمالة لأميركا وإسرائيل “على عينك يا تاجر”، ولا مُوجِب للشعب الفلسطيني العودة الى الماضي وتقييم الخيبات، لأنه من الأفضل له استحضار الحروب من الماضي وتحديداً في أزمنة الحروب عبر “المنجنيق”، لأنه ثبُت أن الأدوات البدائية بأيدٍ عازمة على الثورة، أفضل وأفعل من كل الأسلحة التي استوردها العرب وممنوعٌ توجيه طلقة منها الى إسرائيل.
وفي زمنِ استهداف دول الطوق وإشعالها من الداخل وإشغالها بأمور مُفتعلة ومُتَستِّرة تحت عناوين مطلبية، سواء في مصر أو سوريا أو الأردن حالياً، وفي ظلّ الحديث عن المشروع القديم الجديد المعروف بإسم “ترانسفير”، ووسط خيبة عربية مُخجِلَة وعمالة خليجية واضحة في اللعب على “الصفقة” فوق الطاولة مع العدو الإسرائيلي، فإننا لا نملِك سوى القول للشعب الفلسطيني في يوم القُدس:
أمامكم وخلفكم والى جانبكم دولٌ وشعوبٌ كريمة شريفة من إيران الى لبنان، قِبلتُها القُدس المُقدَّسة، ومعها حركات المقاومة التي سحقت إسرائيل وقارعت أميركا، ويوم القدس يبدو هذا العام مُختلفاً مع الإنتفاضة الحقيقية للشعب الفلسطيني، وهنيئاً لفلسطين بشبابها المُنتفِض، وهنيئاً للصدور العارية التي لا تنفع معها قِبب حديدية وسلاحها السكين والحجر والطائرة الورقية.
المصدر: موقع المنار