محمد قازان
لحظة الدخول إلى القصير كان المشهد مهيباً، هذه المرة نحن لسنا برفقة مقاومة تصدّ هجوماً بل كان جيش المقاومة هو في موقع الهجوم… كل شيء يوحي أن هناك شيئاً تغير: الدبابات – الطائرات – المدافع الثقيلة – الوحدات القتالية الخاصة – مخازن الأسلحة والدعم – الجرافات – المستشفى الحربي – غرفة العمليات، إنه جيش حزب الله المدعوم بالجيش السوري قبيل اقتحام مدينة القصير.
بعد انتهاء معارك غربي العاصي وريف القصير حوصرت مدينة يسكنها وحوش كانت تريد الانقضاض على الهرمل وتتوعد بإزالة حزب الله… في اليوم الأول كانت الأوامر لنا بأن نبقى مع جميع الصحافيين والقنوات التلفزيونية على أطراف المدينة في بلدة ربلة، ثم وُفّقنا في الدخول إلى عمق المدينة في اليوم التالي لتكون المنار القناة الوحيدة التي تتواجد في عمق مدينة القصير داخل غرفة العمليات الميدانية، برفقة مجموعات الإقتحام المتمركزة في محيط المدرسة الرسمية على بُعد أمتار من ثقل الدفاعات التابعة للمسلحين قرب مبنى البلدية وكنيسة المدينة.
تفاصيل كثيرة كان يجب وضعها على ورق قبل خمسة أعوام لحظة معايشتها، علق منها في ذاكرتي ما أستطيع البوح به وما لا أقدر على كتابته.
أذكر كلّ الوجوه، سيما تلك التي رافقتها في المعركة من ضمن سرية العابرون المنضوية في إحدى كتائب التدخل في قوة الرضوان..
عبد الرسول (الشهيد حسين شلهوب الذي يبدو في الصورة معي) كان أحدهم، كان أحد أعمدة الهجوم المركزي الذي كسر دفاعات المسلحين قرب البلدية،طلب أن نتصور، قلت له لا تستعجل غداً سألتقط لك صوراً عدة بعد الهجوم، فأجاب أنه لن يعود،كانت من أكثر المرات التي رأيت الجدية في ملامحه رغم طغيان اللطف وروح الفكاهة على شخصيته بين زملائه.
وبالفعل لم يعد عبد الرسول إلا شهيداً بعدما أصيب بطلقة تسلّلت بين فراغات الدرع والجعبة،كان سبقه في سرية العابرون أبو الفضل المقداد وأبو زهراء ولاحقاً أمجد وأبو حَمَد وأبو تراب وغيرهم، وآخرون بقوا أحياء التقيت بهم في معارك القلمون والزبداني، وقادتهم الميدانيين تمرسوا في تكسير عظام الجماعات الإرهابية حتى باتوا مستشارين في جبهات محور المقاومة المترامي الأطراف…
هم باسل وحيدر وبدر وفجر والنور الساطع في صباحات الانتصارات التي بدأت من القصير.
المشاهدات كثيرة في عدة أيام، سأكتب عن أبرز يوم فيها وهو 25 أيار 2013، كان الهجوم الأكبر على الإطلاق،تكسّرت خلاله دفاعات المسلحين شمال القصير بعدما سيطر المقاومون والجيش السوري على القسم الجنوبي وتجاوزوا خط سكة الحديد ومصلحة زراعة القصير والفرن الآلي وباتوا يحكمون الخناق على غرفة القيادة والسيطرة التي يتمركز فيها الارهابيون قرب مبنى البلدية.
لم يكن وقتها سلاح الجو السوري بذات الفعالية كما اليوم ولم يكن الروس قد دخلوا بعد على خط الحرب في سوريا،كان الإعتماد أكثر على الاقتحام البري وجهاً لوجه بعد تطوير صواريخ البركان الأفقية الخارقة للتحصينات…
في الهجوم النوعي والكبير كانت كاميرا المنار هي الوحيدة الموجودة، كنا ندرك أن كثافة النيران ستحجب الرؤية بعد دقائق من الهجوم لذلك كان الإتفاق أن يتمركز المصوّر علي قميحة على بناء مرتفع قرب محطة المحروقات كي يلتقط مشاهد إمطار المدينة بوابل القذائف والصواريخ المنقطع النظير.
كان مشهداً مهيباً، كل نقطة في الجزء المتبقي مع المسلحين في المدينة تم اسقاط صاروخ أو قذيفة عليها تقريباً… انعدمت الرؤية من بعيد وتقدمنا أنا والمصوّر حسن برجي مع مجموعات التدخل في وحدة الرضوان عند بدء الاقتحام.
كانت تكتيكات الحركة والنار لمجموعات المقاومة برفقة أرتال الدبابات المتقدمة مشهداً جديداً أرسلناه لحظة بلحظة إلى الاستديو في بيروت…
لم يكن هناك وسيلة اتصال إلا عبر هاتف الثريا المتصل بالقمر الصناعي ما حتّم عليّ التواجد في نقطة لا سقف فوقها، فتحصنت خلف دشمة مدفع مباشر من طراز ب 9 وما هي إلا دقائق وبينما كنت أتجهز لبث رسالة مع الزميلة بتول أيوب مباشرة على الهواء انطفأ كل شيء ، غبت عن الوعي للحظات ثم استيقظت على صراخ المصور حسن برجي الذي أتى لسحبي ليتبين أنها قذيفة دبابة أطلقها المسلحون باتجاهنا تسببت بتمزيق الدرع الذي أرتديه دون أي اصابات خطيرة مع ضربة على خدي الأيسر نتيجة ارتطامي بسبطانة مدفع الـ ب 9 من عزم الإنفجار.
لم نعلن يومها عن الإصابة كي لانعطي المسلحين نصراً معنوياً ثم عولجت وأكملت عملي بصعوبة لساعات ما بعد الظهر، حيث كان الإرهابيون قد حوصروا في مربعهم الأخير كمؤشر على النجاح الباهر للهجوم منقطع النظير.
عند الخامسة عصراً عدنا إلى مقر سرية العابرون برفقة قائد كتائب التدخل المهاجمة… عندها أطل الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصرالله عبر المنار حيث كان يخطب في احتفال عيد التحرير في بلدة مشغرة في البقاع الغربي وقال يومها كلمته الشهيرة التي أعلنت دخول حزب الله بشكل فعلي في الحرب في سوريا: ” هذه المعركة كما كل المعارك السابقة، نحن أهلها، نحن رجالها، نحن صنّاع انتصاراتها إن شاء الله”. كانت هذه الجملة فقط من السيد نصرالله بما تحمله من عنفوان وإباء، قادرة أن تجعل هتافات المقاومين الذين يشاهدون الخطاب في الغرفة تتعالى بصوت واحد من فرط الحماسة رغم التعب والإصابات والغبار الذي جلبوه معهم قبل لحظات من الميدان…
أذكر لحظة ما زالت تفاصيلها عالقة في أذهاني في نهاية ذلك اليوم بعد الهجوم الكبير، كان قائد الهجوم واقفاً مع كبار الضباط في غرفة العمليات على مبنى كاشف للسلسلة الشرقية حيث تجمّع ما تبقى من مسلحي القصير وريفها فقال القائد لأحد الضباط “المعركة لم تنته انظر إلى هذه الجبال المترامية الأطراف من جوسيه ومشاريع القاع إلى جرود عرسال ونحلة ويونين نحتاج إلى سنوات لإعادة تطهير المنطقة منهم”.
بعد أربع سنوات وبينما كنت أغطي معارك المقاومين في جرود عرسال تذكرت ما قاله ذلك القائد ،لقد تحررت الحدود كلها والإنطلاقة كانت من القصير والنهاية في جرود القلمون حيث انهزم زعيم داعش موفق عبدالله الجربان الملقب بـ” أبو السوس” والمفارقة أنه هو ذاته كان قائد كتائب الفاروق في مدينة القصير الفصيل الارهابي الأقوى ضمن ما سُمي آنذاك بالجيش الحر قبل نشوء النصرة وداعش…
لقد حققت معركة القصير العديد من الأهداف التي لن يكررها التاريخ وبعض ما كُتب هو مجرّد سطر في بطولات هؤلاء المقاومين ولعل أبرز هذه المؤشرات هي:
1- أن معركة القصير دفعت بالخطر الإرهابي بشكل كبير بعيداً عن البقاع وكل لبنان.
2- لقد قضت معركة القصير على مشروع الجماعات الإرهابية في المنطقة كما كتب الصحافي المصري الراحل الكبير محمد حسنين هيكل.
3- معركة القصير كانت الدعامة الأساسية لبقاء الدولة السورية واقفة على قدميها، وشجعت روسيا على الدخول في الحرب بعدما وجدت بعد عامين أن هناك قوة برية يمكن الاعتماد عليها على الأرض.
4- لقد كسرت معركة القصير الكثير من المفاهيم العسكرية والنظريات التقليدية التي تقول أن المدن تُحاصر ولا تُقتحم باتباع المقاومة والجيش السوري استراتيجية الحصار والإقتحام المزدوج عبر ضرب جسم الإرهابيين على رأسهم في قلب تحصيناتهم في الحارة الغربية ما أدى إلى انهيار باقي أطراف المدينة.
5- لقد أفرزت معركة القصير جيلاً من القادة الميدانيين في وحدات المقاومة قادوا معظم المعارك في سوريا والعراق وأماكن أخرى وما زالت بعد أن راكمت خبرة في القيادة والسيطرة تعادل كل تجاربها إبان الإحتلال الاسرائيلي لجنوب لبنان.
هذا بعض من مشاهداتي في معركة القصير برفقة سرية العابرون وهي جزء يسير من ملاحم لا يتسع لها أي ورق… كنت شاهداً على الكثير منها في الزبداني وغرب الموصل وجرود عرسال والقلمون الغربي وقبل كل ذلك في حرب تموز. ومهما كُتب عنها تبقى مجرد شذرات في سيل المجد والبطولة التي تنصف هؤلاء المقاتلين.
“هم مقاتلو المشرق التعددي المتحضر الذين يمثلون القلب المسلح لحركة التحرر الوطني العربية من مارون الراس إلى القصير”.. هكذا أسماهم ذات يوم مفكر عربي متنوّر اغتاله الظلام والكفر في عمان اسمه ناهض حتّر.
المصدر: موقع المنار