يلزم الكثير من «المعارك»، قبل أن «تتعقّل» السعودية. حروبها المختلفة تنتشر عسكرياً وسياسياً ومالياً. من يظن أنها تعبت من حرب اليمن أو تخلَّفت في الحرب السورية أو انسحبت من النزاع المتعدّد في العراق، واهم جداً. لم تربح بعد، ولن، ولكنها لم تخسر أيضاً.
نصري الصايغ / جريدة السفير
هذه الحروب المندلعة، هي حروبها. أينما توجد إيران، تكون المملكة. وتحت هذا العنوان تشنّ حروبها، وتفرض شروطها ومنطقها على حلفائها المكرَهين بالوقوف إلى جانبها. لا تقاتل السعودية إيران في بلادها. فعلت ذلك مرة بواسطة صدام حسين وخسرت. هي تقاتل النفوذ الإيراني بما ملكت يدها من دين ودنيا أينما كانت. السعودية وإيران لا تلتقيان.
تحشد السعودية طاقاتها في مواجهة «المشروع الإيراني». تعرف أن كسب الحروب مستحيل. لا هي قادرة على ذلك ولا غيرها كذلك. انتهى زمن الحروب التي يستسلم فيها «الأعداء». كل الحروب تقود إلى تسوية مجحفة وظالمة. الخاسرون في الحروب هم الشهداء ومَن ينتسبون إلى المنافي ومَن ينتمون إلى القضايا الجميلة والمغدورة… السعودية في اليمن، أداة دمار بلا انتصار. هي في سوريا أداة اعتراض وتطرف ميداني وسياسي. هي في العراق أداة عرقلة. وهي في لبنان أداة تكفير وانتقام، لمقاومته الإسلامية. الحجة الإيرانية مبتوتة.
لا حدود تقف عندها المملكة. المعركة بحاجة إلى تحشيد. قالت للجميع، أنا هنا، فتبلَّغوا وبَلِّغوا، أن علاقة السعودية بـ «أشقائها» وبـ «أتباعها» وبـ «سنتها» وبـ «العالم الحر»، تمرّ باليمن وسوريا ولبنان والعراق. «مَن ليس معنا فهو عدوّنا». قالت ذلك ونفّذت. أشارت إلى الأنظمة العربية فتبعتها. التحق بها كل صاحب مصلحة وهوى مذهبي. قليل من تخلّف مع الأعذار. فالسعودية تأمر وتُطاع. إلا مَن كان من زمان، في الخط المناوئ والممانع والمجافي للمملكة، بسبب سياساتها، وليس بسبب مذهبها.
كان لها ما أرادت من الجامعة العربية مراراً. تصرُّ على الإجماع الطنَّان، وتنبّه إلى ضرورة المحاسبة. المجانية لم تعد مقبولة. لكل موقف حساب وفير، أو حساب عسير. ولقد نال لبنان، حتى الآن، قسطاً من الحساب العسير، بعدما تمّ سحب «الوديعة العسكرية» واستعيدت إلى مكانها الطبيعي: «الثكنة العسكرية في المملكة». وكان لها ما أرادت من اجتماع وزراء الداخلية العرب. وسيكون لها ما تريد في أي اجتماع أو لقاء إقليمي ودولي. لا أحد يجرؤ أن يُغضب السعودية. فهذه الحرب حربها هي بالأصالة، وليس مسموحاً التخلف عن خوضها. «السعودية فوق الجميع»، هو النشيد الأممي الجديد.
وليست صدفة أبداً، أن تصطف السعودية إلى جانب إسرائيل. هي في الأصل كذلك. نَذَرَ أن كانت في الموقع القومي والعروبي، اجترحت في «حرب تشرين» معجزة رفع أسعار النفط والتهديد بمنعه. ارتد عليها ذلك بثروة مليارية، فيما كان الدم من حصة غيرها، في سيناء والجولان وفلسطين. «حرب تشرين» برأت السعودية من سياساتها المنحازة إلى أميركا ومنحتها ترخيصاً بشن حروب ضد السوفيات في أفغانستان، وضد الأنظمة التقدمية، وصولاً إلى مكافحة الثورات في أميركا اللاتينية.
اكتمل نصاب العداء الأميركي ـ الإسرائيلي ـ السعودي ـ العربي الرسمي. إسرائيل كانت السباقة في اتهام «حزب الله» بالإرهاب. هذا مفهوم ومنطقي جداً. إرهاب الدولة يطلق على الثوار صفة ملازمة هي الإرهاب. كشفت السعودية ما كانت تخبئه، ولكننا كنا نراه: «كل مقاومة إرهاب»، ساهمت في دعم «حماس» فلما اشتدّ ساعدها، رمتها بالتهمة… كشفت الأنظمة العربية مواقفها بعدما كانت متستّرة عليه. فهي كذلك من الزمن الفلسطيني. بنادق الفدائيين طعنتها الأنظمة من الخلف والصدر. نحرتها مراراً. هذه هي سنة الأنظمة.
الجديد أن السعودية خرجت إلى العلن. ما كانت ترتكبه ويربكها، باتت تُشهره ولا تخجل منه. من كان يتوقع أن تكون السعودية غير ذلك، لم يقرأ السعودية «الهادئة» و «الصامتة» من قبل… الجديد أن «العهد الجديد» في المملكة رأى أن الأسلوب القديم لم يعد مجدياً. أراد أن يظهر وجه السعودية الحقيقي. فهذا هو وجهها بلا حجاب. هذه هي سافرة: «السعودية المخيفة»، التي تخيف حلفاءها، فينتظمون معها وخلفها، والتي تسعى إلى إخافة أعدائها. التخويف فَشَلٌ يتأكد، معركة بعد معركة… السعودية اليوم تريد ممن كانت ولي نعمتهم، أن يكونوا سعوديين، ويكونوا حيث تكون، وإلا…
حصة لبنان لم تتأخر. نظام العقوبات السعودية يتدحرج. يتوقَّع أن يتصاعد. حتى الآن، كسبت انتظام حلفائها معها، موقفاً وتوقيعاً. هذا طبيعي. كسبت كذلك سُنَّةً، كانوا على «خبز وملح» مع المقاومة. عدد الذين استنكروا العقوبات السعودية، والعدوان السياسي على المقاومة، تضاءل كثيراً. غابت أسماء قيادات وشخصيات ومنظمات، أخذتهم مصالحهم و «سنيتهم» إلى المملكة. وهذا طبيعي مستهجَن، يشبه ما شذت عليه «النهضة» السنية التونسية. التي دافعت عن حق السعودية في مؤتمر وزراء الخارجية العرب. ألسنا «طوائف» و «مذاهب» متفرقة؟
يبدو أن السعودية لم تتعلم بعد الدرس الأول الذي سجلته المقاومة في لبنان: لبنان هو مقاومته أولاً، ثم البقية تأتي تباعاً. الأولوية في هذا البلد لمقاومة تجذرت فيه، منذ اندلاعها في العرقوب 1968، وحتى ما بعد «عناقيد الغضب» و «جردة الحساب» ومجد العام 2000، عام التحرير الأول والوحيد والناجز، فيما الآخرون، ومنهم وعلى رأسهم السعوديون، يبذلون المال والحبر، من أجل حل فلسطين نهائياً، وليس من أجل حل عادل لفلسطين. هذه حقيقة، وللمقاومة كل الحق في أن تدافع عن وجودها في لبنان. وأياً كان الموقف من تخطي «حزب الله» حدود لبنان، ليصبح جزءاً من جبهات الإقليم، فإن المقاومة باقية فيه، وعلى استعداد لتصون لبنان من اعتداء إسرائيلي، تكتمل عدته عربياً وسعودياً وإسرائيلياً.
أن يكون «حزب الله» حيث تكون إيران وحيث تشتبك مع السعودية، فهذا أمر طبيعي، وسابق على حروب السعودية ضد «التمدد الفارسي». سيعاني اللبنانيون من «نظام العقوبات السعودية» المتدرج. لم تميز السعودية بين حلفائها وخصومها. منطقها: «على أعدائي يا رب»، ولا بأس بإصابة خاصتي. وهذه الخاصة السنية في نظرها، رخوة جداً، ولا عصب لها. وليس بمقدورها قلب الطاولة والبقاء على حياة السلم في البلد.
ماذا يفعل اللبنانيون للتخفيف من تبعات القصاص؟ لا شيء!> ففي الزمن الذي يطلب فيه منك أن تكون سعودياً وإلا… ليس في المستطاع غير ما اعتاد عليه اللبنانيون من انقسام: فريق سعودي هنا وفريق مع إيران هناك… إلى أن تزفّ ساعة الحل الإقليمي الشامل. وسينتظر لبنان كثيراً.
إنه لأمر محزن أن يكون هذا هو مسارنا التاريخي. يا للعبث.
المصدر: جريدة السفير