من يقرأ أشعار المخرج الإيراني الراحل عباس كيارستمي (1940 – 2016) يستطيع ملاحظة العلاقة الوثيقة بين تقنيات العمل السينمائي والكتابة الشعرية، من حيث القدرة على التكثيف، وملء الفراغ، والتعبير عن الصورة الكليّة في أقل عدد ممكن من الكلمات.
في مجموعته الشعرية «ريح وأوراق» (منشورات المتوسط)، التي نقلها من الفارسية إلى العربية محمد الأمين الكرخي، يذهب كيارستمي إلى المنابع الأولى للشعر التي تتخذ من الطبيعة جوهرها الأساس. تتكون المجموعة من 352 قصيدة هايكو. والمجموعة تقترب من بناء قصيدة الهايكو اليابانية، حيث التماهي مع فصول الطبيعة، واستخلاص الحكمة من يوميات البشر. تتجلّى هذه الطبيعة في أكثر من مقطع بشقيها الصائت والصامت. التنوّع بين أنماط الطبيعة جعل نصّ كيارستمي يفيض بالتجدد والديناميكية. تعدّ هذه المجموعة بمثابة محاولة من كيارستمي لتأكيد مشروعه الشعري الذي بدأه بمجموعتي «مع الريح» (1999) و«ذئب مترّبص» (2004)، لجعل الشعر سؤالاً وجودياً حول مصير الإنسان.
لذلك كان طبيعياً أن نقرأ في المقدمة: «من ظلم الدهر/ نلوذ بالشعر، من ظلم الحبيب/ نلوذ بالشعر، من الظلم العلني/ نلوذ بالشعر». كأن الشعر هنا يتحوّل إلى بيت آمن حصين تلجأ إليه النفس للهروب من الضغوط الحياتية اليومية وظلم الآخرين. ثمة أسئلة عديدة يطرحها كيارستمي هنا حول الإنسان ورحلته اليومية في الحياة، ولحظات ضعفه وانكساره، والطفولة المفقودة، والحنين إلى كل ما هو حميمي. إنه الشعور الدائم بالعُزلة التي يفضحها الاستقواء بالقمر: «القمر المكتمل/ يضاعف عزلتي/ هذا المساء». ومع الوقت، يتحوّل الليل بطوله إلى مناجاة مع النفس لا تفضي إلى شيء سوى الأرق: «أرق/ في ليل أضاءه القمر/ حتى الفجر/ حوار غير مثمر مع الذات». وهكذا لا يتوانى كيارستمي عن الربط بين تحوّلات الطبيعة، وتبدل مزاجه الشخصي.
رغم أنّ المجموعة تبدو متكشّفة إلى حدٍ بعيد، ثمة غموض عام ينضح في بعض مقاطعها كأن يقول: «سلّموا جذوع الأشجار/ للمنشرة/ الثلاثاء القادم/ ستكون ألواح الأخشاب/ جاهزة». يتكرر ذكر مفردة المنشرة في أكثر من مقطع داخل المجموعة من دون تفسير واضح.
وعند الرجوع إلى كتاب «عباس كيارستمي: سينما مطرزة بالبراءة» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر – 2011) الذي ترجمه وأعدّه أمين صالح، يوضح كيارستمي في أحد حواراته: «أقضي فترة طويلة من الوقت أمارس النجارة. أحياناً لا أجد شيئاً يمنحني الرضى والاطمئنان مثلما يوفره لي نشر قطعة من الخشب. العمل في هدوء وسكينة يمنحني أماناً داخلياً». كأن كتابة الشعر هنا عن الشجيرات والمنشرة إنما هي مجرّد محاولة لتعويض سكينة مسلوبة أو أمان مستحق. قصائد هذه المجموعة تشبه إلى حدٍّ بعيد الصور الفوتوغرافيّة؛ تلتقط صورةً من هنا، وأخرى من هناك لتصوغ منها عالماً بأكمله. لا حاجة إلى كاميرا أو ضوء أو بطاريات للشحن. فقط استسلام تام للطبيعة ومفرداتها حيث تقبع الحكمة في قاع البحر: «إن كان في قعر المحيط نبع/ تُرى على أي شاكلة سيكون؟».
لا تبحث قصائد هذه المجموعة في الطبيعة وأطوارها بقدر ما تنشدُ الإنساني اليومي فيها كعلاقة الأصدقاء بعضهم ببعض، والكوابيس التي تأتي بغير استئذان، والأحلام المعطلة. يقول كيارستمي: «غريق في اللحظات الأخيرة/ من حياته/ أهدى العالم بضع فقاعات»، و«خطّان متوازيان/ وحدهُ التسامح/ يجعلهما يلتقيان»، و«سأل الطفل/ لماذا يحبّ السمكُ السباحة/ إلى هذا الحدّ؟!» إلخ. تلك المقاطع التساؤلية القصيرة هي ما يجعل من نصّ كيارستمي ذات نكهة خاصة. لكن تظلّ حالة القلق والتشظّي على مدار النصّ إحدى ركائزه الأساسيّة، إذ يقول كيارستمي في الكتاب الآنف ذكره: «القلق هو الشعور الجوهري للحالة الفنية. القلق هو جذر الإبداع. إنه قانون الخلق. عندما يكون لديك هذا الإحساس، تجد نفسك، مجبراً على إنتاج شيء ما. هذا مماثل جداً للولادة بالنسبة إلى المرأة. هل تستطيع أن تطلب من المرأة أن تختار بين أن تلد أو لا تلد عندما تكون حبلى؟ إنها عملية جدليّة: هي تعاني من آلام الحمل، وبهجة الولادة، وإنجاب الطفل». تفسر الفقرة السابقة طبيعة القلق التي يضفرها الشاعر في النصّ لينسج منها عالماً يتماشي مع جوهر الإنسان، ورحلته الحياتيّة للبحث عن ذاته أولاً، وعلاقته بالأشياء ثانياً. منذ عام 1970، تمكن كيارستمي من لفت الانتباه إلى شرائط أفلامه التي أفاد خلالها من تقنيّة «الغرافيك» باعتبار الملصق أحد الأشكال التعبيرية الأولى التي عرفتها البشريّة. صاحب السعفة الذهبية في مهرجان «كان» عن فيلمه الشهير «طعم الكرز» (1997)، يعدّ من مخرجي الموجة الإيرانية الجديدة التي اتسمت بتوظيف المحادثات الشعرية، ورواية القصص التمثيلية المتعلقة بمواضيع الحياة اليومية. لقد حرص دائماً على مواصلة التجريب، بغض النظر عن نتائجه وتأثيره. هذه السمة ستكون ملازمة له في حقول إبداعية أخرى، في مقدمها الشعر.
ينفتح نصّ كيارستمي على طاقة بصرية هائلة، تنضح خلاله الألوان بشراهةٍ. لكن تلك الألوان تمتزج وتتداخل لتضفر الصورة الكليّة، حين يكتب: «خضراء/ وصلدة/ ومهشمة/ ثمار الكاكي في الربيع»، و«مصباحان أصفران/ يخترقان الضباب الكثيف/ ويمضيان»… إن الكتابة عن اللون تحتضر باعتباره مرتكزاً جوهرياً في عملية بناء النصّ. فالعديد من اللقطات الشعرية يُمكن اختزالها بواسطة الترادف والتضّاد بين الألوان. يحاول كيارستمي على مدار النصّ أن يزاوج بين أدواته الإبداعية المختلفة، بدءاً من التصوير وصولاً إلى الكتابة، لكن كل هذه الأفكار تظلّ بلا أسئلة شافية، فيقول: «ألف إجابة على شفتي/ لا أحد يسأل».
محب جميل
المصدر: صحيفة الاخبار