وصلت رغبة السلطة بالبعض، الى حدّ أن أحد الأشخاص المقيمين في بيروت، تقدِّم بترشيحه لمركز مختار في قريته بأعالي جبل لبنان، وهو لا يزورها إلَّا لقضاء عطلة نهاية الأسبوع صيفاً وينقطع عنها شتاءَ. لا صلة إجتماعية له مع أبناء قريته لا في الأفراح ولا الأتراح، ونال تشجيعاً من فئة شبابية هي أيضاً مقيمة في بيروت، واشتغلت وسائل التواصل الإجتماعي دعماً له بين الأصحاب، وقد يفوز بمركز المختار ولكن في “العالم الإفتراضي”.
هذا نموذج عمَّن اغتربوا عن قراهم مسافة ساعة أو ساعتين في السيارة، وانقطعوا عنها لعدة أسباب، منها المبرر ومنها غير المبرر، ثم يحضرون في موسم الإنتخابات الى قراهم للعبث ببيئة لا يعيشون معاناتها، ولا يفقهون حاجاتها وليست ظروفهم تسمح لهم في حال فوزهم بخدمتها، وغدت الإنتخابات البلدية والإختيارية ميدان تصارع بين المقيمين وبين بعض من استوردتهم عائلاتهم من بيروت، خاصة أن “البلدي” لا يتمتع بالكفاءات الإدارية التي يحملها مهندس أو محامٍ قادم من المدينة حتى ولو كان كما البضاعة المستوردة إن لم نقل كما المرتزقة.
نموذج آخر من بيروت، لناخبة بيروتية مقيمة في الناعمة، عندما سُئلت عن رأيها بلوائح مدينتها، فأجابت بوجع: “ماذا ستفعل من أجلي لائحة تحمل إسم بيروت ونحن البيارتة هجرنا بيروت الى بشامون وعرمون والناعمة، وبيروت عند المسؤولين هي فقط سوليدير، وأنا ليس لي في مدينتي سوى نفاياتها التي أتعايش معها قرب مطمر الناعمة، ويذكروننا فقط في الإنتخابات ويغمروننا بالزيارات، وينقلوننا الى بيروت كما الغنم، ويعلفوننا بالسندويشات والعصائر فقط لننتخب وبعدها ننتحب، وليس من يسأل عنا لا نائب عن بيروت ولا عضو بلدية.
غريبة هي الأجواء التي تسود الإنتخابات البلدية والإختيارية في لبنان 2016، فلا الترشيحات هي فقط على مستوى أحزاب، ولا هي على مستوى عائلات، ولا مواجهات بين الأحزاب والعائلات، لأن لوائح العائلات تضمّ حزبيين، لكن المشكلة الكبرى تبقى في الصراع بين “البلدي” و”المستورد”، وإذا كانت المدن الكبرى لديها من يهتم بها من نواب ووزراء، فإن القرى اللبنانية التي انتظرت وستنتظر عقوداً لتحقيق اللامركزية الإدارية علَّها تخفف جزئياً من معاناة أهلها، هذه القرى معنية أكثر من سواها باختيار “البلدي” من أبنائها، ليس بالضرورة من يسكنها صيفاً شتاء، بل من تسكنه أينما كان وفي كل الفصول، وكثيرة هي النماذج عن شبابٍ يعيشون في المدن وكانت لهم أيادٍ بيضاء في تنمية قراهم، والمسألة ليست تستلزم أكثر من شعور بالإنتماء يُترجم على الأرض.
ويحق لأبناء القرى والأطراف، سواء في الشمال أو البقاع أو الجنوب التساؤل، ماذا تعني القرية في أجندة من لا يزورها أكثر من ثلاث أو أربع مرات في السنة، وماذا يمكن أن يحقق لها من لا يعيش وجع أهلها، وماذا فعل لها المغتربون عاطفياً عنها وماذا يفعلون الآن، خاصة في المناطق الحدودية الساخنة أمنياً ، لاسيما المهددة كل يوم بالإرهابيين وحَمَلة السكاكين، وسكان هذه القرى من مختلف الفئات الطائفية والتلاوين المذهبية اللبنانية، يستحقون الكثير من التنمية ودعم مقومات الصمود لأنهم يشكلون نموذجاً عن المقاومة الشريفة المستدامة من أجل أرضٍ ومن أجل وطن.
البلدية سلطة محلية، والمخترة كذلك، لكن المطلوب من الأولى ما هو أكثر من تزفيت طريق وترميم قناة ريّ، والمطلوب من الثانية أكثر من ختم صورة وإنجاز إخراج قيد، لأن السلطة المحلية بكامل أعضائها البلديين والإختياريين مدعوة لتعزيز الصمود في القرى، عبر مشاريع إنمائية تعزز البقاء، وهذه المشاريع لا تُنجزها موازنات بلديات فقيرة، ولا التوسُّل والتسوُّل على أبواب الوزراء والنواب، بل بالأفكار الخلاقة والمبدعة، وقد تكون توأمة القرى مع قرى وبلدات في الخارج إحدى أنجح التجارب في دعم التنمية على مستوى البنى التحتية للقرى وعلى صعيد التطوير الزراعي ودعم الفلاح اللبناني للبقاء بأرضه.
مشاريع جاذبة لعودة المغتربين عن قراهم الى الريف، تستوجب خروج الذهنية في العمل البلدي عن ما هو بديهي الى ما هو تنمية مستدامة، وكثيرة هي البلديات التي تميَّزت بإنجازاتها واستقطبت إستثمارات مُجدية، وإذا كانت اللامركزية الإدارية أسيرة اللجان ومستحيلة التنفيذ حالياً، فإن روح المبادرة لدى الأفراد الذين سينخرطون في العمل العام هي خارطة الطريق الوحيدة، وأن لا يكون الوصول الى البلدية والمخترة هو الغاية كما أوردنا عن “المختار الإفتراضي”، أو أن يكون لدينا ناخبون مهجَّرون كما تلك السيدة التي تسكن الناعمة مع نفايات بيروت، ولا يفعل القيِّمون على مدينتها سوى استخدامها كل ست سنوات شاهدة زور على صناعة سلطة تسكن الأبراج العاجية وناخبوها بين النفايات….
المصدر: موقع المنار