د . زينب طحان
“قبل أن أبدأ خطابي، هذا اليوم هو الذكرى السنويّة لشهادة مالكوم إكس زعيم المسلمين السود في أميركا، أطلب من الحضور الكرام أن يقرأوا الفاتحة وسورة التوحيد إلى روح هذا الشهيد”.
هذا طلب توجّه به الإمام الخامنئي في افتتاح مؤتمر حول القضية الفلسطينية في طهران منذ أيام مرّت. هل يمكن أن يخبرني أحدكم أنّ هناك من تذكّر هذا الرجل الأسود، زعيم السود في أميركا في خمسينات القرن العشرين، في العقود الأخيرة على الأقل؟!..
أن يتذكر الإمام الخامنئي، زعيما بحجم “مالكوم إكس”، بعد مرور 52 عاما على رحيله، هو أكثر من مجرّد التفاتة إنسانيّة تقدّر تضحيات هذا الرجل في سبيل رفع المظلومية عن بني قومه أمام أعتى امبراطورية عنصريّة عرفتها البشريّة في التاريخ. “إذا لم تكن على استعداد للموت في سبيل الحرية، فعليك أن تشطبها من قاموسك”. كان هذا من الأقوال الأخيرة لـ”مالكوم إكس” حين كان يشعر باقتراب أجله، بل حين كان يتوقّع استشهاده. وأن يراه الإمام الخامنئي شهيداً، ويطلب قراءة الفاتحة إلى روحه، لهي دلالة بالغة على عمق التواصل الثقافي والحضاري العريق لعبق الإيمان بروحيّة الإسلام الأصيل الذي يجمع بين الأعراق على اختلاف ألوانها وأنسابها.
جسّد الإمام الخامئني بدعوته الإنسانيّة الراقية تلك، أجمل إطلالة تاريخيّة على الإطلاق تحتفل بذكرى هذا الشهيد الكبير في دار الإسلام الأصيل الذي تحمل إيران – الجمهوريّة الإسلاميّة- رايته في هذا العصر. فقبل 52 عاما بالضبط، كانت شوارع إيران تخطو نحو الثورة في حين كان مالكوم إكس يناضل بالصوت والكلمة والخطبة وقبضة القوّة مناقضا دعوة “مارتن لوثر كينغ” بالسعي إلى نيل الحق باللاعنف. كان يؤمن بعدالة الإسلام أنّ “العين بالعين والسن بالسن”، وما نيل المطالب بالتمنّي ولكن تؤخذ الدنيا غلابا، من هنا كانت دعوته إلى استعادة الحق بالقبضة والقوة، وردّ العنف ضد السود بالمواجهة مهما اقتضت من تضحيات. لطالما خالفه زميله “كينغ” وإن عاد واعترف في الأشهر الأخيرة من حياته بالدعوة إلى نيل الحقوق بقوّة القبضات الحيّة.
كان بارعاً الإمام الخامنئي، في لحظة التقاط ذكرى تاريخيّة نادرة، أحيا ممات هذا الرجل المناضل ليقول إنّ التاريخ الإنساني النابض بروح الثورات لا يمكن أن ينجلي عبثاً، كانت تحيّته رسالة إلى كلّ الوفود الفلسطينية المشاركة تحديدا، ولكلّ العالم معهم، أن الاستمرار من اجل إحقاق الحق ونيل مطالب الثورة لا يمكن أن تسقط مع سقوط الشهداء مهما كانوا كبارا، بل أنّها ترتفع بشهادتهم قدماً إلى الإمام، وستبقى ذكراهم حيّة مع الأجيال، ولن تموت أبداً.
إحياء ذكرى مالكوم إكس، هي كلمة فصل بلاغيّة بلغت من الامتياز المعرفي الذي اتقنه الإمام الخامنئي إلى حدّ الحفر في ذاكرتنا عميقاً حول مسيرة هذا الرجل، والذي أُحبط في بداية مشواره احباطاً نفسيا رهيبا من قبل من يدّعون أنهم جلبوا للعالم الحضارة والعلم. فها هو أستاذه، ينهره بأن يكفّ عن حلمه في أن يصبح محاميا،مع براعته وحدّة ذكائه، فقط لأنه أسود، ممنوع عليه تحقيق هذا الحلم..
هنا الحفر الأنثروبولوجي ذو الخدود المتأصلة في ثقافة إيران / الإسلام، يؤدّيه قائد الثورة بأداء مبهر، يعيد للذاكرة الجمعيّة ألقها الإنساني الشريف والنظيف، الممهور بالدم القاني. فما بين مالكوم إكس والإمام الخميني، وكلاهما قاد ثورة وانقلاباً ثقافيا واسلاميا، وإن أخفقت ثورة الأول في تحقيق نتائجها المباشرة، غير أنّ ما بينهما جسر لا يمكن أن تغمره رمال السنين أو فوارق العرق والمكان.
هل كان يبعث الإمام الخامنئي رسالة إلى سود أميركا أيضاً؟. أولئك الذين لا يزالون يشكون من معاناة الاضطهاد والتمييز العنصري البغيض،مع كل المزاعم والصور البرّاقة التي نشاهدها في أفلام هوليوود، ومع صعود رجل أسود سدّةَ الرئاسة الأميركية؟!..أيّة رسالة كان يشير إليها ؟!..في أن يقول لهم عليكم بتجديد ثورتكم ؟!..عليكم إيجاد مالكوم إكس جديد؟!..ربما..وهو يستبطن سؤالا يؤرق الأحرار الشرفاء في العالم، لماذا يراهن بعض أبناء القضيّة المحقّة على نوايا طيبة عند العدوّ؟ لماذا يفاوضون ويبيعون حقوقا لهم ولأمّتهم؟!..فمتى تعجز قضية عادلة عن إيجاد قائد أو زعيم ؟ لا بدّ من أنّ الخطب في كوادرها وليس في منطلقاتها أو أهدافها.
فلنقرأ الفاتحة وسورة التوحيد على أمم لا تلتفت إلى ما تمتلكه من عظمة التاريخ والإرث الإنساني الكبير الذي حقق لها في حقب مختلفة الكثير..ولكن هل نقرأ أيضا سورة “النصر” إلى أمّة إقليميّة تتحوّل إلى عالميّة مع إسلام مقاوم من طراز مغاير كلّ المغايرة عمّا عرفته تلك الأجيال..؟!..مع قائد فذّ مثل الإمام الخامنئي أعتقد أنّه آن آوان التفاؤل الحقيقي.. لأنّه القائد الثاني- بعد الإمام الخميني- تصنعه ثورة لا تزال تحيا وتتنفس بعمق مع شهيق وزفير..
المصدر: موقع المنار