لا تزال عقيدة الإيمان بالمخلّص للبشرية في آخر الزمان تحرّك في الأمم والشعوب أملاً سرمدياً مستمداً من الايديولوجيا الدينية بقدر ما كانت ملمحاً أساسياً في ركائز المنظومات الفكرية والفلسفية الكبرى التي لحظت في عمادها أن تكون خلاصاً للشعوب. وعند كل منعطف مصيري تمرّ به الإنسانية ينبري هذا الأمل وكأنه صنواً لا فكاك منه.
زينب الطحان/ موقع المنار
خليفة الأرض : المنهج السنني في قراءة حركة الإمام المهدي (عج) غير أن الرؤية الإنسانية العامة للمخلّص تحمل في العديد من ثناياها تناقضات جمّة تتمفصل وفاق عقيدة كل أمة وكل جماعة. في الإسلام تحتلّ قضية المخلّص حيّزاً كبيراً، إلى مستوى أن الحديث الشريف يقول “من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية”، إذ تعدّ ركناً وثيقاً مرتبطاً بمقبولية الإيمان الفردي للمسلم. فهي تشكّل إيماناً وجودياً يتطلب حسّاً عالياً من التعايش معها، وتدخل في سياق منظومة التفكير الفلسفي الذي يعالج الطروحات الوجودية.
من هنا يبدو أن ما يعاصر هذه القضية من إشكاليات عديدة مبهمة عند شريحة واسعة من المسلمين تحديداً، ألحّ على الشيخ حسين رضا زين الدين أن يخطّ معالم مغايرة عن المألوف ليزيل ذلك اللغط الكبير الذي يرافق هذه القضية مع كل مفصل تطرح فيه.
يأتي كتاب “خليفة الأرض : المنهج السنني في قراءة حركة الإمام المهدي (عج)”، للشيخ رضا حسين زين الدين مفصلياً في مرحلة تاريخية حسّاسة ودقيقة من حياة الأمة الإسلامية التي تحتدم ساحتها بالمعارك الدموية وتدّعي كل طائفة منها أنها تحمل المشروع الخلاصي للأمة.
من هنا عادت لتشكّل القضية المهدوية جزءاً من خريطة الصراع بين الحق والباطل في معناهما الأشمل والمعولم في عصرنا الراهن، لذا يقوم الكاتب بالتأسيس لفكرة المهدوية من هذا المنطلق، في الفصل الأول من الكتاب “الصراع التاريخي بين الحق والباطل”، والمقسّم إلى ثلاث مباحث، يبدأ من لحظة الخلق الأولى لآدم، وما يرافقها من مفهومي الخلافة والشهادة. وبين الاثنين رباط عضوي، عندما يضع الله سبحانه خط خلافة الإنسان على الأرض موازياً تماماً لخط الشهادة، والمقصود به التدخل الرباني لصيانة مسيرة الإنسان الخليفة من الانحراف وتوجيهه نحو أهداف الخلافة الراشدة. وهو ما يتمثّل بدور النبييّن والربّانيين والأحبار (علماء الشريعة). أما الربّانيّون، هي درجة وسطى بين النبي والعالم وهي درجة الإمام، والأئمة الذين يعدّون امتداداً للنبي في خط الشهادة. ويبني الكاتب لمفهومي الخلافة والشهادة، أبعاداً تتكامل فيها الهوية الإنسانية وتتشكل بها، من خلال محورين اثنين العلم والمعرفة، والإرادة والعزم، مؤكداً على أن صناعة البعد الثاني يتمّ بالتجربة المباشرة لأن الإرادة تنمو وتتكامل بمواجهة التحديات.
المهدوية في حركة الأنبياء :
وفي هذا السياق الترابطي بين أدوار ممثلي الشهادة، يقدّم الشيخ زين الدين رؤية أكثر وضوحاً لدور الأنبياء في إعادة استقراء حركة الأهداف المشتركة لمسيرتهم، إلا إنه أفرد لأنبياء أولي العزم دوراُ محورياً ومفصلياً في تاريخ البشرية. البداية مع النبي نوح (ع) وكان عنوان مرحلته بناء مجتمع الإيمان بالرسل، بسبب انكار الناس للتواصل بين الله وبينهم بواسطة بشرية. وتكمن خطورة هذا التحدي في كون إثبات الواسطة البشرية شرطا ضروريا لفتح باب التصديق بالنبوات اللاحقة. مع النبي إبراهيم كان الهدف بناء مجتمع التوحيد وتعميق العلاقة بالغيب. وترتقي مسؤولية الشهادة إلى مرتبة خلق الجتمع التشريعي مع النبي موسى (ع) من وحي العقيدة الإلهية.
ومن ثم انتقلت مرحلة مهمة إقامة النموذج التنفيذي إلى النبي عيسى (ع) لإقامة الحكومة الإلهية الممهدة للحكومة الكبرى التي سيقيمها خاتم الرسل محمد (ص). ومع الرسول الأعظم كان ترسيخ كل مضمون المراحل السابقة للأنبياء مع وجود الضمانة القيادية من بعده المتمثلة بالإمامة وفي حلقتها الخاتمية مع المهدي الموعود في تأكيد حتمية وصول قافلة البشرية إلى كمالها. هذا الكمال الذي ركّز عليه الأنبياء في دعوتهم، مرتبط بحتمية استمرار التدخل الرباني في حماية رحلة الإنسان الخليفة ليصل إلى ذلك الكمال المنشود. ولا يمكن لهذا الكمال الوصول إليه إلا بشرط الاستجابة البشرية الاختيارية التي لم تحصل على مدار حركة الأنبياء كلها. وكانت الانتكاسة الكبرى في هذه الانحرافات مع إبعاد خط الإمامة عن القيادة السياسية والروحية والتشريعية للأمة.
خليفة الأرض : المنهج السنني في قراءة حركة الإمام المهدي (عج) من هنا يؤسس الشيخ زين الدين للقضية المهدوية في استمرار خط الأنبياء المتعلقة بشرط الاستجابة البشرية الاختيارية. ففي الفصلين الثالث والرابع، يبني الكاتب رؤية تقدميّة في المنحى الإسلامي وتفسيراته لشرائط الظهور المهدوي وعلاماته إلى جانب مفهوم الانتظار وواجبات المنتظر. والاستجابة البشرية لا تقف عند حدود الإيمان بضرورة الظهور المبارك وانتظاره، بل للكاتب مقاصد أخرى في معنى هذه الاستجابة. وفي مقدمة هذه المقاصد العمل على توفير شروط الظهور ما يعني إزالة الأسباب التي أدت إلى الغيبة.
وما استدعى هذه الغيبة سببان : الأول الحفاظ على شخص الإمام المهدي (عج)، كون وجود الشخص ضرورة لانتصار المشروع الإلهي، والثاني ألا يكون في عنقه بيعة لظالم. ويستتبع الكاتب بهذين السبيين شروطاً أخرى لا تقل أهمية عنها، وفي مقدمتها بناء قوة إسلامية عالمية منقادة للإمام (عج) تحفظه وتدافع عنه وتستبسل في نصرة مشروعه الإلهي. ولا بد من استكمال الشروط بمجموعة من الواجبات تفرضها طبيعة المهمة في زمن الغيبة، ومنها إقامة الحجة على الناس في اتّباع الحق، وتقوية مواقع الحق ونشره، وحماية أهله ودفع الباطل ومواجهته.
علامات الظهور حتمية أم نشارك في صنعها ؟! :
ويأتي من بعد ذلك الحديث عن صفات ووظائف اتباع الحق في زمن الغيبة وهي تعدّ من الشروط الموضوعية ويعددها “زين الدين” إلى ثمانية عشر صفة ينشق عنها ثمانية عشر وظيفة. وتحدثت الروايات عن أربع طوائف ينصرون الصاحب (ع) وهم : عصائب أهل الحق؛ أبدال أهل الشام؛ نجباء مصر وأهل المشرق. ويفصّل الكاتب الحديث عن كل طائفة من هؤلاء، معززا رؤيته بالأحاديث النبوية والشريفة عن الرسول وأهل بيته (ع).
يبقى الحديث عن علامات الظهور، وهو الأكثر إشاقة في الكتاب، نظراً لم يتردد بين المؤمنين من أقاويل عديدة تربط بين مجريات الأحداث التاريخية وبين هذه العلامات. وقبل الحديث عن العلامات ومدى ومدى الوثوق بها، يتوقف الشيخ زين الدين عند وظائف هذه العلامات والتي تعدّ أكثر أهمية لربط المسلم بإمام زمانه. ربط الإنسان بالغيب، يقف محوراً أساسياً بالعلاقة مع الإمام المهدي (عج)، لم فيه من تعزيز الإيمان والثقة بمصادر الأخبارات الغيبية. وتأتي في المرتبة الثانية استعجال التوبة، لأن قيام القائم هو القيامة الصغرى، فعندما يظهر يصعب الانتقال من خط الباطل إلى خط الحق، فقد يثبت كل في خطه. ومع كثرة الابتلاءات وإبقاء جذوة الأمل بالخلاص متقدة يأتي منع اليأس، ما يجعل المنتظر يبذل كل ما يستطيع لإيمانه بوجود المنقذ. ويستتبع ذلك منع الانحراف العقائدي وفضح المدّعين، فالعلامات – والسفياني منها خاصة- تشكّل ضوابط لقبول أو رفض أي ادعاء للمهدوية.
وتقسم علامات الظهور إلى نوعين، منها القريبة والأخرى البعيدة. والأخيرة ذات مواصفات عامة ومجملة، لها قابلية التصديق في كل زمان بما يتناسب معه. وقد يجري البداء في بعضها. ولقد أحصى الشيخ المفيد ما يقرب من أربعين علامة، جزء منها ظواهر وجزء أحداث، منها انتشار الأمراض، شيوع موت الفجأة، قلة الأموال، الشح في الخيرات، شح النفوس، شيوع سوء الظن، تشبّه الرجال بالنساء والنساء بالرجال، الشذوذ الجنسي، انتشار الطاعون والحروب، كثرة الفتن بين المؤمنين، الاضطراب وانعدام الأمن تشوّه الطبيعة، عدم المبالاة بأحكام الشريعة، سرعة انقضاء الزمن..وتجدر الإشارة إلى أن هذه العلامات يفترض انطباقها على المشهد العالمي، إذ تصبح العولمة مظهرا لتوحيد المشاكل البشرية وتالياً ضرورة من ضرورات الظهور، وتصبح عولمة الاتصالات أداة مهمة لإيصال الخطاب المهدوي لكل أصقاع الأرض.
العلامات القريبة هي أقرب للشروط منها للعلامات كما يبيّن المؤلف. إذ تتميز بالإيهام والسرية وعلى المنتظرين ترقبها بل والمساهمة في صناعتها والاستعداد لحصولها.
العلامة الأولى : إقامة دولة التمهيد في إيران، وهي دولة متصلة بالظهور، حيث لا تتحدث الروايات عن فرقة صغيرة تخرج لمواجهة السفياني بل عن وجود جيش لدولة نموذجية.
العلامة الثانية : العولمة وما ينتج عنها من اتحاد لمشاكل البشرية يساهم في التمهيد لعالمية الحاجة إلى المنقذ. فالإمام لا يظهر إلا عندما تكبر حاجة الناس إليه وتلهج ألسنتهم بذكره. وهذا التوجه نحو الإمام لا يتحقق إلا مع اليأس من كل التجارب الإنسانية.
العلامة الثالثة: زوال الإمبراطوريات الكبرى أو ضعفها، ويؤيد ذلك وما يمكن فهمه من قوله تعالى :”وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذاباً شديداً كان ذلك في الكتاب مسطورا”. والقرية تطلق على الحاضرة مقابل البادية، وتطلق على الحضارة مقابل البداوة، والقرآن الكريم هنا يتوعّد بهلاك كل قرية قبل يوم القيامة. وهنا ثلاث احتمالات :
1. أن تكون الدولة الهالكة بعد دولة الإمام (عج) ولكن لا دولة بعده.
2. أن تكون نفس دولة الإمام ولا معنى لهلاكها.
3. أن تكون قبل دولته المباركة وهذا ينسجم مع الدليل.
خليفة الأرض : المنهج السنني في قراءة حركة الإمام المهدي (عج) ويدل على هذه العلامة التأمل في خارطة الصراع بين الإمام وأعدائه، حيث لا نجد مواجهة مع إحدى الدول الكبرى، وهذا يعني أن الحضارات الكبرى لن تكون ندّاً أو خصماً مباشراً. وهذا ما يضعف احتمال أن يكون هلاك هذه الدول على يد الإمام نفسه ومتزامناً مع حركته العلنية.
العلامة الرابعة : زوال إسرائيل، وتدل عليها أيضاً حركة الصراع والروايات التي تكشف أن الإمام (عج) لا يدخل بيت المقدس مقاتلاً بل يدخل إماماً للصلاة.
ويأتي في الختام الحديث عن العلامات المباشرة التي لا لبس فيها ولا تتعرض إلى تغيير، وهي خمس علامات تحدث في سنة الظهور ولا علاقة للاختيار بها، إنما هي بمثابة النتائج المترتبة على نضج الصراع في مسار المواجهة بين الحق والباطل. ويعدّ السفياني من اقوى هذه العلامات وتليه الصيحة من السماء. وقد جمعت الرواية التالية هذه العلامات الخمس ما رواه الكليني، في الكافي، عن أبي عبدالله (ع) يقول :”خمس علامات قبل قيام القائم: الصيحة والسفياني، وقتل النفس الزكية، واليماني. ..”.
مفهوم الانتظار وواجبات المنتظر :
لقد أولى أئمة أهل البيت اهتماماً خاصاً بمفهوم انتظار الفرج، وعدّوه في قائمة الأعمال العبادية ووعدوا المنتظرين لفرجهم بعظيم الدرجات عن الله سبحانه. ويعني انتظار الفرج ليس النهائي بل أن كل طريق مسدود قابل للفتح، والمسلم يتعلم من خلال درس انتظار الفرج أنه لا يوجد طريق مسدود في حياة البشر مما لا يمكن أن يفتح، وأنه لا يجب عليه أن ييأس ويحبط ويجلس ساكناً ويقول لا يمكن أن نفعل شيئاً. وانتظار الفرج هو أيضاً مشروط بأن يكون انتظاراً واقعياً وأن يكون فيه العمل والسعي والاندفاع والتحرك. فالانتظار حركة واعية منبعثة لا تعرف السكون أو اليأس، واستعداد مستمر لكل حدث.
من هنا يمتد الحديث عن واجبات المنتظر تجاه إمام زمانه، التي تفرض عليه أو أن يكوّن معرفة تامة به باسمه ونسبه وحقيقته ومقدرته وأنه محقق وعد الله بإظهار دينه على الكون كله. وأن يكوّن علاقة خاصة بينه وبين الإمام (عج) يدعو له في غيبته ويدفع الصدقة عنه وإدخال السرور إلى قلب الإمام (عج) بالامتثال إلى ما يرضيه وتجنّب ما يكرهه والالتفات إلى أن أهم ما يمنع ظهوره المبارك أعمالنا السيئة التي يكره، فقد ورد في رسالته إلى الشيخ المفيد :”… فما يحبسنا عنهم إلا ما يتصل بنا مما نكرهه وما نؤثره منهم والله المستعان وهو حسبنا ونعم الوكيل”.
ولا يكفي المقام هنا للتحدث عن كل ما قدّمه كتاب “خليفة الأرض :المنهج السنني في قراءة حركة الإمام المهدي”، ففيه رؤية متبّصرة حول كل ما يتعلق بفكرة المهدوية والايمان بالمخلّص من أهل بيت النبوة، في استقراء جديد لعلامات الظهور وكيفية العمل للتمهيد لظهوره المبارك، لا الاستكانة والركون إلى اليأس، بل العمل بأمل وفرح حتى يأذن الله لقائمه بالقدوم إلينا.
المصدر: موقع المنار