إيمان بشير
تجد في صفوف المقاومة مقاتلين على أهبّة الاستعداد لأيّ معركة، أنّى استدعت الحاجة والساحة لذلك. لا تقتصر معاركهم تلك على المشاركات العسكريّة فحسب، ثمة معارك غير مرئية، يخوضها هؤلاء في الخفاء، واحدة منها، مكافحة السرطان الناجم عن إصابة حربيّة.
كان يستعدّ، بكامل أناقته. لبِسَ جعبته العسكريّة. سرّح شعره، رتّب بدلته. أكثر من وضع العطور. يصرخ صديقه “هل أنت ذاهب إلى عرس”؟ يُجيبه، بل أجمل من ذلك. بدأت مجموعة المقاومين في حزب الله بالتجهّز في قرية ربلة السوريّة، للتبديل مع مجموعة أخرى داخل القصير، لصالح أحد الخطوط الأماميّة.
هناك في المدينة، وصل جهاد ورفاقه إلى المعركة، اشتبكوا مباشرة مع المسلّحين، في حيّ يقاتل فيه المقاومون من منزل إلى آخر، ومن نافذة إلى أخرى. نتيجة القنص، سقط الشهيد الأوّل في المجموعة، رفع ذلك من اندفاع المقاومين وإرادتهم. بعد سقوط الدماء أمام أعينهم ليس كما قبله. سارع قائد المجموعة بالرمي على مصدر إطلاق النيران. في اليوم التالي، قُطع الإمداد عن المجموعة بسبب كثافة القنص، في مساحة أربعة منازل حيث يناور المقاومون.
في غروب اليوم الثالث اشتدّ الجوع والعطش. نهارٌ ثالث يُقفل على ذلك. لا مياه، لا معلّبات، لا خبز، ولا ما يُسكّن تلك اللحظات. كانت المدينة آنذاك شديدة الحرارة. اقترح أحد المقاومين إحناء سخّان المنزل وكسره للحصول على بعض المياه “بكعبه بضلّ في شويّة ميّ”. ارتشف المقاومون من تلك المياه الحمراء، وأكملوا طريقهم. في مكان إقامتهم ليلاً، تحدّث جهاد مع رفيقه طويلاً. عندما استلقى الأخير، كان يصدر صوتاً غريباً، يشي بحجم التعب. قال جهاد ممازحاً “أخروجه، علّه يطرد المسلّحين بصوته المزعج هذا”. روحه المرحة لم تفارقه حتى في أكثر لحظات المعركة ضراوة.
في تمام الساعة الخامسة من صباح اليوم الرابع، بدّل أفراد المجموعة أمكنتهم لتأدية الصلاة. عادة ما تنخفض وتيرة الاشتباكات ليلاً، وتشتدّ بعد بزوغ الفجر. بعد أقلّ من ساعة احتدمت المعركة، وارتفعت وتيرة النيران.
انتهت مرحلة التثبيت. بدأ الاشتباك المباشر، حركة ونار للانتقال إلى المرحلة الثانية. التحم جهاد مع المسلّحين من مسافة صفر، حاملاً الـBKC (سلاح متوسط) ومعه اثنان من المجموعة.
دخلوا إلى أحد المنازل، وما إن سمع جهاد وطأة أقدام أحد المسلّحين، حتى وجّه سلاحه. كانت الطلقات تسبق خطوات الرجل. خرج عنصر “جبهة النصرة” من الغرفة المقابِلة، وارتمى أرضاً. في أجزاء من الثانية، أصابت الطلقات صدره. ثم طلقتان تأكيديتان وأكمل جهاد الطريق. أراد أحد أفراد “النصرة” الانتقام للقتيل. حاول المناورة خلف المنزل، برمي عدّة قنابل. عمد مسؤول المجموعة إلى إلهاء المسلّح من نافذة الغرفة، التفّ جهاد من خلفه وأرداه قتيلاً.
طلبت غرفة العمليات من قائد المجموعة التموضع في تلك البقعة. لكن سرعان ما تلقّى الأخير نداءً عبر الجهاز بضرورة التعامل مع الحركة التي تتقدّم باتجاه مجموعة المقاومة. اختلف المقاومون حول من سيخرج أوّلاً. الكلّ يريد التقدّم. وقع قرار قائد المجموعة على جهاد ورفيقه. أوكل إلى جهاد، صاحب القلب الفولاذي، مهمّة تأمين طريق قائد المجموعة لرمي المسلّحين. اتخذ موقعاً قتالياً وسط الشارع وبدأ بالرمي، محاولاً استباق رفاقه وتأمين مرورهم.
كان جهاد، في ذاك الموقف، فدائياً رغم صغر سنّه. بعد دقائق، حصل ما لم يكن في الحسبان. دوّى انفجار في المكان. رمى المسلّحون نقطة جهاد بصاروخٍ. شاء الله أن تحمي الدشمة التي كان خلفها حياته. بعد بحث لأربع ساعات ونصف الساعة، وُجد جهاد على سطح أحد المنازل. حمله أصدقاؤه على باب خشبيّ. وقتذاك، لم يكن متاحاً للمسعف أن يصل إلى تلك النقطة. قذفت الضربة جهاد إلى أعلى المبنى، بعيداً خطوات قليلة عن أعمدة حديد حادّة، كادت أن تمزّق جسده.
استيقظ جهاد لأوّل مرّة في المستشفى. يومها فجراً، وعلى غير عادة، أجهشت والدته بالبكاء، “جهاد ليس بخير”. عندما وصل الأخير إلى مستشفى الرسول الأعظم في بيروت، قام بتغطية وجهه بملاءة السرير.
لم يرد للموجودين في المستشفى معرفة هويّته. استقبله والده بالكشف عن وجهه “ما بحب الجرحى، ما عرفت تجي شهيد؟ ما حدا منكن عرف يجي شهيد (يقصد هو وإخوته)، لأقدر حطّ عيني بعيون أهالي الشهداء”! بعد شهرين، لسببٍ ما، ودّ والده زيارة مكان الإصابة، زارها متسائلاً لماذا لم تكن تلك البقعة بقعة شهادة ابنه الأكبر. كيف تصف قلب أبّ صلب كهذا. مكث جهاد أسبوعين في المستشفى، لم تكن تلك إصابته الوحيدة. بعد أربعة أشهر، سرعان ما التحق جهاد بالجبهة مجدداً، وأصيب في رجله في بلدة عقربة في الغوطة، أثناء اشتباكات مع المسلّحين. يعتقد البعض أن رواية جهاد انتهت هنا، لكنها في الحقيقة، ليست إلا بداية القصّة.
ذات يوم، في نهاية عام 2019، شعر جهاد بأوجاع قاسية في يده اليُمنى. التشخيص الطبّي وصل إلى مزق والتهابات. خضع لعملية استمرّت تسع ساعات، طلب الطبيب خزعة “لمجرّد الاطمئنان”. بعد صدور النتيجة، تلقّى جهاد اتصالاً من المستشفى، “نريد التحدّث إلى والدك”. فهم جهاد سوء ما سيقولونه. قال لهم انتظروا دقيقة. بدّل صوته وأجاب منتحلاً صفة والده. لم يرد جهاد أن يتلقّى والده، الذي تربطه به علاقة خاصّة، أي صدمة جديدة. لم يخب إحساسه. كانت النتيجة كما توقّع، “إصابة بمرض السرطان”. شُخّص السبب التعرضّ لمواد كيميائيّة حربيّة. يقول الطبيب لجهاد “ستعيش شهرين، لن تستمر أكثر من ذلك”.
كيف يمكن لطبيب، أُلزم بمهمة إنسانيّة، أن يُخبر مريضاً النتيجة على هذا النحو. ما يحصل للمرء في حالة كهذه لا يُشرَح. يبقى لصاحبه، وحده، اختزان مشاعر قتال المرض وقوفاً، على مدى الساعات يوميّاً. شعر جهاد بذلك قبل حدوثه. إصابة صديقه في المعارك، وفي المنطقة نفسها، أدّت إلى ظهور مرض السرطان لديه بعد ثلاث سنوات من الحادثة.
لم يصمد الرجل أكثر من شهرين، واستُشهد. كل ذلك لم يدفع جهاد إلى الاستسلام. ذهب إلى طبيب آخر، النتيجة ذاتها، لكن بأمل أكبر، ومعنويات أعلى. صار جهاد يعدّ الأيام، يوماً بعد يوم، إنه اليوم الواحد والستون، لم يحصل شيء. نزل جهاد إلى عمله، قرّر متابعة حياته واستكمال العلاج. مرّت أربع سنوات على هذه الحال، لا يكاد يمرّ يومان خلالها، إلا ووخزت الإبر جسده. قبل أيام، خضع جهاد لسادس عمليّة جراحيّة، ليبدأ بعدها رحلته الجديدة، رحلة “الكيمو”.
ذات مرّة، عبّر القائد عماد مغنيّة عن قوّة المقاومين بـ “الروح التي تُقاتل”. ثمة من طوّر هذه المقولة بروحيّة قتاليّة تمتّد لما بعد المعركة. هي روحيّة الجيل الجديد التي لطالما تحدّث عنها العدو الإسرائيلي بوضوح، ولا سيما أولئك الذين اكتسبوا الخبرات في “حرب الشوارع”. استمرت معركة جهاد، ولا تزال، رغم تحرير القصير منذ سنوات طويلة. بدأ جهاد رحلته مع العلاج الكيميائي. حلق شعره، “سأتخلّص منه بملء إرادتي، لن أنتظره ليقع. وسأبقى جنتلمان حتى بعد ذلك”، يقول ممازحاً. “إني مرّشِّح، عم بتعامل مع السرطان على هذا الأساس”.
عن هذه الروح التي تُقاتل لا يمكن أن تصف أكثر. جهاد لا يأبه للضوء أبداً، لا تجد له صورة في أحد مواقع التواصل الاجتماعي. هو مِن ذاك النوع من الرجال الذين لا تُعرف أسماؤهم، ولا أشكالهم، إلا بعد حين. يظنّ كثيرون أن مهمة المقاتل تنتهي لحظة خروجه من المعركة، هذا ليس حال الجرحى في المقاومة الإسلامية، ممن فقدوا أعضاء أو بصراً أو حركة. وهذه ليست قصّة جهاد وحده، وربما ليست أشدّها قسوة.
هي قصّة كلّ الجرحى، ومرضى السرطان معاً. في معركته المستمرة بعد المعركة، يختم جهاد “ليته شخص يقف أمامي لأحاربه وأقتله” معبّراً عن ذاك المرض الخبيث. جيّد أنه تكلّم. كان يمكن أن يبقى هذا النوع من المعارك المخفيّة للجرحى طيّ الكتمان، لو أنه لم يفعل.
المصدر: بريد الموقع